Arabic Library المكتبة العربية

Wednesday, June 16, 2010

الجزء الأول مقدمة المؤلف‏ بداية المجتهد ونهاية المقتصد .‏

( 2 من 28 )


الجزء الأول‏.‏
مقدمة المؤلف‏.‏
-بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي ‏(‏في نسخة فاس‏:‏ التنبيه لنفسي بدل أن أثبت‏)‏ ‏(‏انظر ترجمة المؤلف آخر الكتاب‏)‏ على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد‏.‏
وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك‏.‏ فنقول‏:‏
إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة‏:‏ إما لفظ، وإما فعل، وإما إقرار‏.‏ وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور‏:‏ إن طريق الوقوف عليه هو القياس‏.‏ وقال أهل الظاهر‏:‏ القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له‏.‏ ودليل العقل يشهد ثبوته ‏[‏أي ثبوت القياس‏.‏ دار الحديث‏]‏، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى‏.‏
وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة‏:‏ ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه‏.‏ أما الثلاثة المتفق عليها فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوى؛ فمثال الأول قوله تعالى ‏
{‏حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير‏}‏ فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك، مثل خنزير الماء، ومثال العام يراد به الخاص قوله تعالى ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال، ومثال الخاص يراد به العام قوله تعالى ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك، وهذه إما أن يأتي المستدعى بها فعله بصيغة الأمر، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به الأمر، وكذلك المستدعي تركه، إما أن يأتي بصيغة النهي، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به النهي، وإذا أتت هذه الألفاظ بهذه الصيغ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب على ما سيقال في حد الواجب والمندوب إليه، أو يتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما، فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه، وكذلك الحال في صيغ النهي هل تدل على الكراهية أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما، فيه الخلاف المذكور أيضا، والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط، وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص، ولا خلاف في وجوب العمل به، وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد، وهذا قسمان‏:‏ إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما، وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر ظاهرا، ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل محتملا، وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل، فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع، لكن ذلك من قبل ثلاثة معان‏:‏ من قبل الاشتراك في لفظ العين الذي علق به الحكم، ومن قبل الاشتراك في الألف واللام المقرونة بجنس تلك العين، هل أريد بها الكل أو البعض‏؟‏ ومن قبل الاشتراك الذي في ألفاظ الأوامر والنواهي‏.‏ وأما الطريق الرابع فهو أن يفهم من إيجاب الحكم لشيء ما نفي ذلك الحكم عما عدا ذلك الشيء أو من نفى الحكم عن شيء ما إيجابه لما عدا ذلك الشيء الذي نفي عنه، وهو الذي يعرف بدليل الخطاب، وهو أصل مختلف فيه، مثل قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏في سائمة الغنم الزكاة‏"‏ فإن قوما فهموا منه أن لا زكاة في غير السائمة، وأما القياس الشرعي فهو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء، المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين قياس شبه، وقياس علة؛ والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام‏:‏ أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص، فيلحق به غيره، أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذي بينهما لا من جهة دلالة اللفظ لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس، وإنما هو من باب دلالة اللفظ، وهذان الصنفان يتقاربان جدا لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا، فمثال القياس إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد والصداق بالنصاب في القطع، وأما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم فمن باب الخاص أريد به العام، فتأمل هذا فإن فيه غموضا‏.‏ والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه، وأما الثاني فليس ينبغي لها أن تنازع فيه لأنه من باب السمع، والذي يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب، وأما الفعل فإنه عند الأكثر من الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وقال قوم الأفعال‏:‏ ليست تفيد حكما إذ ليس لها صيغ، والذين قالوا إنها تتلقي منها الأحكام اختلفوا في نوع الحكم الذي تدل عليه، فقال قوم‏:‏ تدل على الوجوب، وقال قوم‏:‏ تدل على الندب، والمختار عند المحققين أنها إن أتت بيانا لمجمل واجب دلت على الوجوب، وإن أتت بيانا لمجمل مندوب إليه دلت على الندب؛ وإن لم تأت بيانا لمجمل، فإن كانت من جنس القربة دلت على الندب وإن كانت من جنس المباحات دلت على الإباحة، وأما الإقرار فإنه يدل على الجواز فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط‏.‏
وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة، إلا أنه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع وليس الإجماع أصلا مستقلا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق، لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة‏.‏ وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين، فهي بالجملة‏:‏ إما أمر بشيء وإما نهي عنه، وإما تخيير فيه‏.‏ والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجبا، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا‏.‏ والنهي أيضا إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرما ومحظورا،وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها، فتكون أصناف الأحكام الشرعية الملتقاة من هذه الطرق الخمس‏:‏ واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح‏.‏ وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة‏:‏ أحدها تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع‏:‏ أعني بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص، أو خاصا يراد به العام، أو عاما يراد به العام، أو خاصا يراد به الخاص، أو يكون له دليل خطاب، أو لا يكون له‏.‏ والثاني الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية، وإما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى ‏
{‏إلا الذين تابوا‏}‏ فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف‏.‏ والثالث اختلاف الإعراب‏.‏ والرابع تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز، التي هي‏:‏ إما الحذف، وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة‏.‏ والخامس إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة، وتقييدها بالإيمان تارة‏.‏ والسادس التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الأحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات، أو تعارض القياسات أنفسها،أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة‏:‏ أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس، ومعارضة الإقرار للقياس‏.‏
قال القاضي رضي الله عنه‏:‏
وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء، فلنشرع فيما قصدنا له، مستعينين بالله، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم‏.‏
كتاب الطهارة من الحدث‏.‏
-فنقول‏:‏ إنه اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان‏:‏ طهارة من الحدث، وطهارة من الخبث، واتفقوا على أن الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف‏:‏ وضوء، وغسل، وبدل منهما وهو التيمم، وذلك لتضمن ذلك آية الوضوء الواردة في ذلك، فلنبدأ من ذلك بالقول في الوضوء، فنقول‏:‏
كتاب الوضوء‏.‏
-إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب‏:‏ الباب الأول في الدليل على وجوبها، وعلى من تجب ومتى تجب‏.‏ الثاني في معرفة أفعالها‏.‏ الثالث في معرفة ما به تفعل وهو الماء‏.‏ الرابع في معرفة نواقضها‏.‏ الخامس في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها‏.‏
الباب الأول‏.‏
-فأما الدليل على وجوبها فالكتاب والسنة والإجماع‏.‏ أما الكتاب فقوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق‏}‏ الآية‏.‏ فإنه اتفق المسلمون على أن امتثال هذا الخطاب واجب على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها‏.‏ وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول‏"‏ وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ‏"‏ وهذان الحديثان ثابتان عند أئمة النقل‏.‏ وأما الإجماع، فإنه لم ينقل عن أحد من المسلمين في ذلك خلاف، ولو كان هناك خلاف لنقل، إذ العادات تقتضي ذلك‏.‏ وأما من تجب عليه فهو البالغ العاقل، وذلك أيضا ثابت بالسنة والإجماع‏.‏ أما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏رفع القلم عن ثلاث، فذكر‏:‏ الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق‏"‏ وأما الإجماع، فإنه لم ينقل في ذلك خلاف، واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا‏؟‏ وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه، لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي‏.‏ وأما متى تجب فإذا دخل وقت الصلاة، أو أراد الإنسان الفعل الذي الوضوء شرط فيه، وإن لم يكن ذلك متعلقا بوقت، أما وجوبه عند دخول وقت الصلاة على المحدث فلا خلاف فيه لقوله تعالى ‏
{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ الآية، فأوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، ومن شروط الصلاة دخول الوقت، وأما دليل وجوبه عند إرادة الأفعال التي هو شرط فيها فسيأتي ذلك عند ذكر الأشياء التي يفعل الوضوء من أجلها واختلاف الناس في ذلك‏.‏
الباب الثاني‏.‏
-وأما معرفة فعل الوضوء فالأصل فيه ما ورد من صفته في قوله تعالى
‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ ‏.‏ وما ورد من ذلك أيضا في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في الآثار الثابتة، ويتعلق بذلك مسائل اثنتا عشرة مشهورة تجري مجرى الأمهات، وهي راجعة إلى معرفة الشروط والأركان وصفة الأفعال وأعدادها وتعيينها وتحديد محال أنواع أحكام جميع ذلك‏.‏
-‏(‏المسألة الأولى من الشروط‏)‏‏:‏
اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى ‏
{‏وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إنما الأعمال بالنيات‏"‏ الحديث المشهور‏.‏ فذهب فريق منهم إلى أنها شرط، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور وداود‏.‏ وذهب فريق آخر إلى أنها ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري‏.‏ وسبب اختلافهم تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة‏:‏ أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه، وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة، والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبها فيلحق به‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية من الأحكام‏)‏‏:‏
اختلف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، فذهب قوم إلى أنه من سنن الوضوء بإطلاق، وإن تيقن طهارة اليد، وهو مشهور مذهب مالك والشافعي‏.‏ وقيل إنه مستحب للشاك في طهارة يده؛ وهو أيضا مروي عن مالك‏.‏ وقيل إن غسل اليد واجب على المنتبه من النوم، وبه قال داود وأصحابه‏.‏ وفرق قوم بين نوم الليل ونوم النهار، فأوجبوا ذلك في نوم الليل ولم يوجبوه في نوم النهار، وبه قال أحمد، فتحصل في ذلك أربعة أقوال‏:‏ قول إنه سنة بإطلاق، وقوله إنه استحباب للشاك وقول إنه واجب على المنتبه من نوم وقول أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده‏"‏ وفي بعض رواياته ‏"‏فليغسلها ثلاثا‏"‏ فمن لم ير بين الزيادة الواردة في هذا الحديث على ما في آية الوضوء معارضة، وبين آية الوضوء حمل لفظ الأمر ههنا على ظاهره من الوجوب، وجعل ذلك فرضا من فروض الوضوء، ومن فهم من هؤلاء من لفظ البيات نوم الليل أوجب ذلك من نوم الليل فقط، ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط أوجب ذلك على كل مستيقظ من النوم نهارا أو ليلا، ومن رأى أن بين هذه الزيادة والآية تعارضا إذ كان ظاهر الآية المقصود منه حصر فروض الوضوء كان وجه الجمع بينهما عنده أن يخرج لفظ الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الندب، ومن تأكد عنده هذا الندب لمثابرته عليه الصلاة والسلام على ذلك قال إنه من جنس السنن، ومن لم يتأكد عنده هذا الندب قال إن ذلك من جنس المندوب المستحب، وهؤلاء غسل اليد عندهم بهذه الحال إذا تيقنت طهارتها‏:‏ أعني من يقول إن ذلك سنة، من يقول إنه ندب، ومن لم يفهم من هؤلاء من هذا الحديث علة توجب عنده أن يكون من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده مندوبا للمستيقظ من النوم فقط، ومن فهم منه علة الشك وجعله من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده للشاك، لأنه في معنى النائم، والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم اليد في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به، إذا كان الماء مشترطا فيه الطهارة وأما من نقل من غسله صلى الله عليه وسلم يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه، فيحتمل أن يكون من حكم اليد على أن يكون غسلها في الابتداء من أفعال الوضوء، ويحتمل أن يكون من حكم الماء، أعني أن لا ينجس أو يقع فيه شك إن قلنا إن الشك مؤثر‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة من الأركان‏)‏‏:‏
اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في الوضوء على ثلاثة أقوال‏:‏ قول إنهما سنتان في الوضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقول إنهما فرض فيه، وبه قال ابن أبي ليلى وجماعة من أصحاب داود، وقول إن الاستنشاق فرض والمضمضة سنة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيدة وجماعة من أهل الظاهر، وسبب اختلافهم في كونها فرضا أو سنة اختلافهم في السنن الواردة في ذلك، هل هي زيادة تقتضي معارضة آية الوضوء أو لا تقتضي ذلك؛ فمن رأى أن هذه الزيادة إن حملت على الوجوب اقتضت معارضة الآية، إذ المقصود من الآية تأصيل هذا الحكم وتبيينه أخرجها من باب الوجوب إلى باب الندب، ومن لم ير أنها تقتضي معارضة حملها على الظاهر من الوجوب ومن استوت عنده هذه الأقوال والأفعال في حملها على الوجوب لم يفرق بين المضمضة والاستنشاق، ومن كان عنده القول محمولا على الوجوب والفعل محولا على الندب فرق بين المضمضة والاستنشاق، وذلك أن المضمضة نقلت من فعله عليه الصلاة والسلام ولم تنقل من أمره وأما الاستنشاق فمن أمره عليه الصلاة والسلام وفعله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر‏"‏ خرجه مالك في موطئه، والبخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة من تحديد المحال‏)‏‏:‏
اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء لقوله تعالى
‏{‏فاغسلوا وجوهكم‏}‏ واختلفوا منه في ثلاثة مواضع‏:‏ في غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وفي غسل ما انسدل من اللحية، وفي تخليل اللحية، فالمشهور من مذهب مالك أنه ليس البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد قيل في المذهب بالفرق بين الأمرد والملتحي فيكون في المذهب في ذلك ثلاثة أقوال‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ هو من الوجه‏.‏ وأما ما انسدل من اللحية، فذهب مالك إلى وجوب إمرار الماء عليه، ولم يوجبه أبو حنيفة ولا الشافعي في أحد قوليه؛ وسبب اختلافهم في هاتين المسئلتين هو خفاء تناول اسم الوجه لهذين الموضعين، أعني هل يتناولهما أو لا يتناولهما وأما تخليل اللحية فمذهب مالك أنه ليس واجبا، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الوضوء، وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على أنها غير صحيحة مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ليس في شيء منها التخليل‏.‏
-‏(‏المسألة الخامسة من التحديد‏)‏‏:‏
اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالى ‏
{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ واختلفوا في إدخال المرافق فيها؛ فذهب الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها، وذهب بعض أهل الظاهر وبعض متأخري أصحاب مالك والطبري إلى أنه لا يجب إدخالها في الغسل؛ والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف إلى، وفي اسم اليد في كلام العرب وذلك أن حرف إلى مرة يدل في كلام العرب على الغاية، ومرة يكون بمعنى مع، واليد أيضا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان على الكف فقط، وعلى الكف والذراع، وعلى الكف والذراع والعضد، فمن جعل ‏"‏إلى‏"‏ بمعنى مع ‏(‏هنا في نسخة فاس بمعنى من‏)‏، أو فهم من اليد مجموع الثلاثة الأعضاء أوجب دخولها في الغسل ‏(‏فيها هنا زيادة لأن إلى عنده تكون بمعنى من ومبدأ الشيء من الشيء‏)‏، ومن فهم من ‏"‏إلى‏"‏ الغاية ومن اليد ما دون المرفق ولم يكن الحد عنده داخلا في المحدود لم يدخلهما في الغسل، وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى كذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى كذلك، ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ‏.‏ وهو حجة لقول من أوجب إدخالها في الغسل، لأنه إذا تردد اللفظ بين المعنيين على السواء وجب أن لا يصار إلى أحد المعنيين إلا بدليل، وإن كانت ‏"‏إلى‏"‏ في كلام العرب أظهر في معنى الغاية منها في معنى مع، وكذلك اسم اليد أظهر فيما دون العضد منه فيما فوق العضد، فقول من لم يدخلها من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة هذا الأثر أبين، إلا أن يحمل هذا الأثر على الندب، والمسألة محتملة كما ترى، وقد قال قوم‏:‏ إن الغاية إذا كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل فيه‏.‏
-‏(‏المسألة السادسة من التحديد‏)‏‏:‏
اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه‏.‏ فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله، وذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث، ومنهم من حده بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحده بالربع، وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال‏:‏ إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه‏.‏ وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدا‏.‏ وأصل هذا الاختلاف في الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى
‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ على قراءة من قرأ تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت، ومرة تدل على التبعيض مثل قول القائل‏:‏ أخذت بثوبه وبعضده، ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب، أعني كون الباء مبعضة، وهو قول الكوفيين من النحويين، فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله؛ ومعنى الزائدة ههنا كونها مؤكدة، ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه، وقد احتج من رجح هذا المفهوم بحديث المغيرة ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ وإن سلمنا أن الباء زائدة بقي ههنا أيضا احتمال آخر، وهو هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها‏.‏
-‏(‏المسألة السابعة من الأعداد‏)‏‏:‏
اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وإن الاثنين والثلاث مندوب إليهما، لما صح ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا‏"‏ ولأن الأمر ليس يقتضي إلا الفعل مرة مرة، أعني الأمر الوارد في الغسل في آية الوضوء، واختلفوا في تكرير مسح الرأس هل هو فضيلة أم ليس في تكريره فضيلة‏.‏ فذهب الشافعي إلى أنه من توضأ ثلاثا ثلاثا يمسح رأسه أيضا ثلاثا، وأكثر الفقهاء يرون أن المسح لا فضيلة في تكريره؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في قبول الزيادة الواردة في الحديث الواحد إذا أتت من طريق واحد ولم يرها الأكثر، وذلك أن أكثر الأحاديث التي روي فيها أنه توضأ ثلاثا ثلاثا من حديث عثمان وغيره لم ينقل فيها إلا أنه مسح واحدة فقط‏.‏ في بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوئه أنه عليه الصلاة والسلام مسح برأسه ثلاثا، وعضد الشافعي وجوب قبول هذه الزيادة بظاهر عموم ما روي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، وذلك أن المفهوم من عموم هذا اللفظ وإن كان من لفظ الصحابي هو حمله على سائر أعضاء الوضوء، إلا أن هذه الزيادة ليست في الصحيحين، فإن صحت يجب المصير إليها، لأن من سكت عن شيء ليس هو بحجة على من ذكره‏.‏ وأكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء‏.‏ وروى عن ابن الماجشون أنه قال‏:‏ إذا نفذ الماء مسح رأسه ببلل لحيته، وهو اختيار ابن حبيب ومالك والشافعي‏.‏
ويستحب في صفة المسح أن يبدأ بمقدم رأسه فيمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ على ما في حديث عبد الله بن زيد الثابت‏.‏ وبعض العلماء يختار أن يبدأ من مؤخر الرأس، وذلك أيضا مروي من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام من حديث الربيع بنت معوذ، إلا أنه لم يثبت في الصحيحين‏.‏
-‏(‏المسألة الثامنة من تعيين المحال‏)‏‏:‏
اختلف العلماء في المسح على العمامة، فأجاز ذلك أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام وجماعة، ومنع من ذلك جماعة منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة، وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في وجوب العمل بالأثر الوارد في ذلك من حديث المغيرة وغيره ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى العمامة‏"‏ وقياسا على الخف، ولذلك اشترط أكثرهم لبسهما على طهارة، وهذا الحديث إنما رده من رده، إما لأنه لم يصح عنده، وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده، أعني الأمر فيه بمسح الرأس، وإما لأنه لم يشتهر العمل به عند من يشترط اشتهار العمل فيما نقل من طريق الآحاد وبخاصة في المدينة على المعلوم من مذهب مالك أنه يرى اشتهار العمل، وهو حديث خرجه مسلم، وقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث معلول، وفي بعض طرقه أنه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية، ولذلك لم يشترط بعض العلماء في المسح على العمامة المسح على الناصية، إذ لا يجتمع الأصل والبدل في فعل واحد‏.‏
-‏(‏المسألة التاسعة من الأركان‏)‏‏:‏
اختلفوا في مسح الأذنين هل هو سنة أو فريضة، وهل يجدد لهما الماء أم لا‏؟‏ فذهب بعض الناس إلى أنه فريضة، وأنه يجدد لهما الماء وممن قال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ويتأولون مع هذا أنه مذهب مالك لقوله فيهما إنهما من الرأس‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه مسحهما فرض كذلك ‏(‏انظر هذا، فإن المقرر في مذهب أبي حنفية أن مسحهما سنة لا فرض‏)‏ إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد‏.‏ وقال الشافعي مسحهما سنة ويجدد لهما الماء‏.‏ وقال بهذا القوم جماعة أيضا من أصحاب مالك؛ ويتأولون أيضا أنه قوله لما روي عنه أنه قال حكم مسحهما حكم المضصمضة؛ وأصل اختلافهم في كون مسحهما سنة أو فرضا اختلافهم في الآثار الواردة بذلك، أعني مسحه عليه الصلاة والسلام أذنيه هل هي زيادة على ما في الكتاب من مسح الرأس فيكون حكمهما أن يحمل على الندب لمكان التعارض الذي يتخيل بينها وبين الآية إن حملت على الوجوب، أم هي مبينة لمجمل الذي في الكتاب فيكون حكمهما حكم الرأس في الوجوب، فمن أوجبهما جعلها مبينة لمجمل الكتاب، ومن لم يوجبهما جعلها زائدة كالمضمضة، والآثار الواردة بذلك كثيرة، وإن كانت لم تثبت في الصحيحين فهي قد اشتهر العمل بها‏.‏ وأما اختلافهم في تجديد الماء لهما فسببه تردد الأذنين بين أن يكونا عضوا مفردا بذاته من أعضاء الوضوء، أو يكونا جزءا من الرأس‏.‏ وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه، وذهب آخرون إلى أنه يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه، وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءا من الوجه أو جزءا من الرأس، وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح واشتهار العمل به‏.‏ والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس‏.‏
-‏(‏المسألة العاشرة من الصفات‏)‏‏:‏
اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم‏:‏ طهارتهما الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم‏:‏ فرضهما المسح، وقال قوم‏:‏ بل طهارتهما تجوز بالنوعين‏:‏ الغسل والمسح، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف، وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء‏:‏ أعني قراءة من قرأ، وأرجلكم بالنصب عطفا على المغسول، وقراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض عطفا على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده؛ ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك، وبه قال الطبري وداود‏.‏ وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى، إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر‏:‏
لعب الزمان بها وغيرها * بعدي سوا في المحور والقطر‏.‏
بالخفض، ولو عطف على المعنى لرفع القطر‏.‏
وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر‏:‏ فلسنا بالجبال ولا الحديدا‏.‏
وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء ‏"‏ويل للأعقاب من النار‏"‏ قال فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب، وهذا ليس فيه حجة، لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين، وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال‏:‏ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى ‏"‏ويل للأعقاب من النار‏"‏ وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه، لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازها، وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، ولكن من طريق المعنى، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل، وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين‏:‏ معنى مصلحيا، ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع ‏"‏إلى‏"‏ زكاة النفس‏.‏ وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح‏؟‏ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف إلى أعني في قوله تعالى ‏
{‏وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى ‏{‏إلى المرافق‏}‏ لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم اليد، ومن اشتراك حرف إلى وهنا من قبل اشتراك حرف إلى فقط‏.‏ وقد اختلفوا في الكعب ما هو، وذلك لاشتراك اسم الكعب واختلاف أهل اللغة في دلالته، فقيل هما العظمان اللذان عند معقد الشراك وقيل هما العظمان الناتئان في طرف الساق، ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذا كانا جزءا من القدم، لذلك قال قوم‏:‏ إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه‏:‏ أعني الشيء الذي يدل عليه حرف إلى، إذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏.‏
-‏(‏المسألة الحادية عشرة من الشروط‏)‏‏:‏
اختلفوا في وجود ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية‏.‏ فقال قوم‏:‏ هو سنة، وهو الذي حكاه المتأخرون من أصحاب مالك عن المذهب، وبه قال أبو حنيفة والثوري وداود‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو فريضة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد، وهذا كله في ترتيب المفروض مع المفروض، وأما ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة فهو عند مالك مستحب؛ وقال أبو حنيفة هو سنة؛ وسبب اختلافهم شيئان‏:‏ أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المترتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب، ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة‏:‏ ليس تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط، وقال الكوفيون‏:‏ بل تقتضي النسق والترتيب؛ فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه‏.‏ والسبب الثاني اختلافهم في أفعاله عليه الصلاة والسلام، هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب‏؟‏ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال‏:‏ إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال‏:‏ إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية عشرة من الشروط‏)‏‏:‏
اختلفوا في الموالاة في أفعال الوضوء، فذهب مالك إلى أن الموالاة فرض مع الذكر ومع القدرة ساقطة مع النسيان ومع الذكر عند العذر ما لم يتفاحش التفاوت‏.‏ وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الموالاة ليست من واجبات الوضوء، والسبب في ذلك الاشتراك الذي في الواو أيضا، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة بعضها على بعض، وقد يعطف بها الأشياء المتراخية بعضها عن بعض‏.‏ وقد احتج قوم لسقوط الموالاة بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يتوضأ في أول طهوره ويؤخر غسل رجليه إلى آخر الطهر، وقد يدخل الخلاف في هذه المسألة أيضا في الاختلاف في حمل الأفعال على الوجوب أو على الندب، وإنما فرق مالك بين العمد والنسيان، لأن الناسي الأصل فيه في الشرع أنه معفو عنه إلى أن يقوم الدليل على غير ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان‏"‏ وكذلك العذر يظهر من أمر الشرع أن له تأثيرا في التخفيف، وقد ذهب قوم إلى أن التسمية من فروض الوضوء واحتجوا لذلك بالحديث المرفوع، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا وضوء لمن لم يسم الله‏"‏ وهذا الحديث لم يصح عند أهل النقل، وقد حمله بعضهم على أن المراد به النية، وبعضهم حمله على الندب فيما أحسب، فهذه مشهورات المسائل التي تجري من هذا الباب مجرى الأصول، وهي كما قلنا متعلقة إما بصفات أفعال هذه الطهارة، وإما بتحديد مواضعها، وإما بتعريف شروطها وأركانها وسائر ما ذكر، ومما يتعلق بهذا الباب مسح الخفين إذ كان من أفعال الوضوء‏.‏
‏(‏والكلام المحيط بأصوله يتعلق بالنظر في سبع مسائل‏)‏ بالنظر في جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفته‏:‏ أعني صفة المحل، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه‏:‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏‏:‏ فأما الجواز، ففيه ثلاثة أقوال‏:‏ القول المشهور أنه جائز على الإطلاق، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار‏.‏ والقول الثاني جوازه في السفر دون الحضر‏.‏ والقول الثالث منع جوازه بإطلاق وهو أشدها‏.‏ والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح مع تأخير آية الوضوء، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول، فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار، وهو مذهب ابن عباس، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير، وذلك أنه روى ‏"‏أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين، فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، فقال‏:‏ ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة‏"‏ وقال المتأخرون القائلون بجوزاه‏:‏ ليس بين الآية والآثار تعارض، لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له، والرخصة إنما هي للابس الخف، وقيل إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين، وأما من فرق بين السفر والحضر فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر، مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف، فإن نزعه مما يشق على المسافر‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏)‏‏:‏ وأما تحديد المحل فاختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار، فقال قوم‏:‏ إن الواجب من ذلك مسح أعلى الخف، وإن مسح الباطن أعني أسفل الخف مستحب، ومالك أحد من رأى هذا والشافعي، ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما، وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك، ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة، وشذ أشهب فقال‏:‏ إن الواجب مسح الباطن، أو الأعلى أيهما مسح ‏(‏نسخة فاس‏:‏ والأعلى مستحب‏)‏؛ وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين‏:‏ أحدهما حديث المغيرة بن شعبة وفيه ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف وباطنه‏"‏ والآخر حديث علي ‏"‏لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه‏"‏ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه، فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة‏.‏ ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي رجحه من قبل مخالفته للقياس أو من جهة السند، والأسعد في هذه المسألة هو مالك‏.‏ وأما من أجاز الاقتصار على مسح الباطن فقط فلا أعلم له حجة، لأنه لا هذا الأثر اتبع، ولا هذا القياس استعمل، أعني قياس المسح على الغسل‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏‏:‏ وأما نوع محل المسح فإن الفقهاء القائلين بالمسح اتفقوا على جواز المسح على الخفين، واختلفوا في المسح على الجوربين، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة، وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين‏.‏ واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها، فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه، ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر، أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين، وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلما وصححه الترمذي، ولتردد الجوربين المجلدين بين الخف والجورب غير المجلد عن مالك في المسح عليهما روايتان‏:‏ إحداهما بالمنع والأخرى بالجواز‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏‏:‏ وأما صفة الخف، فإنهم اتفقوا على جواز المسح على الخف الصحيح، واختلفوا في المخرق، فقال مالك وأصحابه‏:‏ يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا، وحدد أبو حنيفة بما يكون الظاهر منه أقل من ثلاثة أصابع‏.‏ وقال قوم بجواز المسح على الخف المنخرق ما دام يسمى خفا وإن تفاحش خرقه، وممن روى عنه ذلك الثوري، ومنع الشافعي أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو كان يسيرا في أحد القولين عنه وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في انتقال الفرض من الغسل إلى المسح هل هو لموضع الستر أعني ستر خف القدمين، أم هو لموضع المشقة في نوع الخفين‏؟‏ فمن رآه لموضع الستر لم يجز المسح على الخف المنخرق، لأنه إذا انكشف من القدم شيء انتقل فرضهما من المسح إلى الغسل، ومن رأى أن العلة في ذلك المشقة لم يعتبر الخرق ما دام يسمى خفا‏.‏ وأما التفريق بين الخرق الكثير واليسير فاستحسان ورفع للحرج‏.‏ وقال الثوري‏:‏ كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم‏.‏ قلت‏:‏ هذه المسألة هي مسكوت عنها، فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى ‏
{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ ‏.‏
-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏‏:‏ وأما التوقيت فإن الفقهاء أيضا اختلفوا فيه، فرأى مالك أن ذلك غير مؤقت، وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة؛ وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن ذلك مؤقت‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث‏:‏ أحدها حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ والثاني حديث أبي بن عمارة ‏"‏أنه قال يارسول الله أأمسح على الخف‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ يوما‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ويومين‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ وثلاثة‏؟‏ قال نعم حتى بلغ سبعا، ثم قال‏:‏ امسح ما بدا لك‏"‏ خرجه أبو داود والطحاوي‏.‏ والثالث حديث صفوان بن عسال قال‏:‏ كنا في سفر فأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من بول أو نوم أو غائط ‏(‏هكذا رواية الترمذي ورواية النسائي ‏"‏ثلاثة أيام بلياليهن‏"‏ من غائط وبول ونوم إلا من جنابة‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ أما حديث علي فصحيح خرجه مسلم‏.‏ وأما حديث أبي بن عمارة فقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم، ولذلك ليس ينبغي أن يعارض به حديث علي‏.‏ وأما حديث صفوان بن عسال فهو وإن كان لم يخرجه البخاري ولا مسلم فإنه قد صححه قوم من أهل العلم بحديث الترمذي وأبو محمد بن حزم، وهو بظاهره معارض بدليل الخطاب لحديث أبي كحديث علي، وقد يحتمل أن يجمع بينهما بأن يقال‏:‏ إن حديث صفوان وحديث علي خرجا مخرجا السؤال عن التوقيت، وحديث أبي بن عمارة نص في ترك التوقيت، لكن حديث أبي لم يثبت بعد، فعلى هذا يجب العمل بحديثي علي وصفوان، وهو الأظهر إلا أن دليل الخطاب فيهما يعارضه القياس، وهو كون التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة، لأن النواقض هي الأحداث‏.‏
-‏(‏المسألة السادسة‏)‏‏:‏ وأما شرط المسح على الخفين، فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا‏.‏ وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في المنتخب، وإنما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه، فقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان‏"‏ والمخالف حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية، واختلف الفقهاء من هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما‏؟‏ فمن لم ير أن الترتيب واجب ورأى أن الطهارة تصح لكل عضو قبل أن تكمل الطهارة لجميع الأعضاء قال بجواز ذلك، ومن رأى أن الترتيب واجب وأنه لا تصح طهارة العضو إلا بعد طهارة جميع أعضاء الطهارة لم يجز ذلك، وبالقول الأول قال أبو حنيفة، وبالقول الثاني قال الشافعي ومالك، إلا أن مالكا لم يمنع ذلك من جهة الترتيب، وإنما منعه من جهة أنه يرى أن الطهارة لا توجد للعضو إلا بعد كمال جميع الطهارة، وقد قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏وهما طاهرتان‏"‏ فأخبر عن الطهارة الشرعية‏.‏ وفي بعض روايات المغيرة ‏"‏إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان فامسح عليهما‏"‏ وعلى هذه الأصول يتفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد أن غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى؛ فقال مالك‏:‏ لا يمسح على الخفين لأنه لابس للخف قبل تمام الطهارة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري والمزي والطبري وداود‏:‏ يجوز له المسح، وبه قال جماعة من أصحاب مالك منهم مطرف وغيره، وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد غسل الرجل الثانية ثم لبسها جاز له المسح، وهل من شرط المسح على الخف أن لا يكون على خف آخر عن مالك فيه قولان‏.‏ وسبب الخلاف هل كما تنتقل طهارة القدم إلى الخف إذا ستره الخف، كذلك تنتقل طهارة الخف الأسفل الواجبة إلى الخف الأعلى‏؟‏ فمن شبه النقلة الثانية بالأولى أجاز المسح على الخف الأعلى، ومن لم يشبهها بها وظهر له الفرق لم يجز ذلك‏.‏
-‏(‏المسألة السابعة‏)‏‏:‏ فأما نواقض هذه الطهارة، فإنهم أجمعوا على أنها نواقض الوضوء بعينها، واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ إن نزعه وغسل قدميه فطهارته باقية، وإن لم يغسلهما وصلى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه، وممن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن مالكا رأى أنه إن أخر ذلك استأنف الوضوء على رأيه في وجوب المولاة على الشرط الذي تقدم‏.‏ وقال قوم‏:‏ طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل، وممن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى‏.‏ وقال الحسن بن حي‏:‏ إذا نزع خفيه فقد بطلت طهارته، وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين، وهذه المسألة هي مسكوت عنها‏.‏ وسبب اختلافهم هل المسح على الخفين هو أصل بذاته في الطهارة أو بدل من غسل القدمين عند غيبوبتهما في الخفين‏؟‏ فإن قلنا هو أصل بذاته فالطهارة باقية وإن نزع الخفين كمن قطعت رجلاه بعد غسلهما، وإن قلنا إنه بدل، فيحتمل أن يقال إذا نزع الخف بطلت الطهارة وإن كنا نشترط الفور، ويحتمل أن يقال إن غسلهما أجزأت الطهارة إذا لم يشترط الفور‏.‏ وأما اشتراط الفور من حين نزع الخف فضعيف، وإنما هو شيء يتخيل فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الباب‏.‏
الباب الثالث في المياه‏.‏
-والأصل في وجوب الطهارة بالمياه قوله تعالى
‏{‏وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به‏}‏ وقوله ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافا في الصدر الأول شاذا، وهم محجوبون بتناول اسم الماء المطلق له، وبالأثر الذي خرجه مالك وهو قوله عليه الصلاة والسلام في البحر ‏"‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏"‏ وهو وإن كان حديثا مختلفا في صحته، فظاهر الشرع يعضده، وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير إلا خلافا شاذا، روي في الماء الآجن عن ابن سيرين، وهو أيضا محجوج بتناول اسم الماء المطلق له، واتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحد من هذه الأوصاف أنه لا يجوز به الوضوء ولا الطهور‏.‏ واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه وأنه طاهر، فهذا ما أجمعوا عليه من هذا الباب، واختلفوا من ذلك في ست مسائل تجري مجرى القواعد والأصول لهذا الباب‏.‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه، فقال قوم‏:‏ هو طاهر سواء كان كثيرا أو قليلا، وهي إحدى الروايات عن مالك، وبه قال أهل الظاهر، وقال قوم‏:‏ بالفرق بين القليل والكثير، فقالوا إن كان قليلا كان نجسا، وإن كان كثيرا لم يكن نجسا‏.‏ وهؤلاء اختلفوا في الحد بين القليل والكثير، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه‏.‏ وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من هجر، وذلك نحو قلال من خمسمائة رطل، ومنهم من لم يجد في ذلك حدا، ولكن قال‏:‏ إن النجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغير أحد أوصافه، وهذا أيضا مروي عن مالك، وقد روي أيضا أن هذا الماء مكروه فيتحصل عن مالك في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة ثلاثة أقوال‏:‏ قول إن النجاسة تفسده، وقول إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول إنه مكروه‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا استيقظ أحدكم من نومه‏"‏ الحديث، يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك أيضا حديث أبي هريرة الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه‏"‏ فإنه يوهم بظاهره أيضا أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء‏.‏
وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم‏.‏ وأما حديث أنس الثابت ‏"‏أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء فصب على بوله‏"‏ فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء، إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب‏.‏ وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا خرجه أبو داود قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له ‏"‏إنه يتسقى من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الماء لا ينسجه شيء‏"‏ فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم؛ فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد قال‏:‏ إن حديثي أبي هريرة غير معقولي المعنى، وامتثال ما تضمناه عبادة لا لأن ذلك الماء ينجس، حتى إن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت‏:‏ لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء، فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول، ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث، فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية، وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما، أعني على الإجزاء‏.‏ وأما الشافعي وأبو حنيفة، فجمعا بين حديثي أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري، بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل، وحديث أبي سعيد على الماء الكثير‏.‏ وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، خرجه أبو داود والترمذي، وصححه أبو محمد بن حزم قال ‏"‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب‏؟‏ فقال‏:‏ إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا‏"‏ وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة، فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر، لكن من ذهب هذين المذهبين فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد، فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء، فقالوا إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس، وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس‏.‏
وقال جمهور الفقهاء‏:‏ هذا تحكم، وله إذا تؤمل وجه من النظر، وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه، وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير، وإذا كان ذلك كذلك، فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لو حله قدر ما من النجاسة لسرت فيه ولكان نجسا، فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة وتذهب قبل فناء ذلك الماء، وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل لأن نسبته إلى ما ورد عليه مما بقي من النجاسة نسبة الماء الكثير إلى القليل من النجاسة، ولذلك كان العلم يقع في هذه الحال بذهاب عين النجاسة، أعني في وقوع الجزء الأخير الطاهر على آخر جزء يبقى من عين النجاسة، ولهذا أجمعوا على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن‏.‏
واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء‏.‏ وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع، هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهية، وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز، لأن هذا التأويل يبقى مفهوم الأحاديث على ظاهرها، أعني حديثي أبي هريرة من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء؛ وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث، وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى، وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله، وأما من احتج بأنه لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء لما كان الماء يطهر أحدا أبدا، إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهيره أبدا نجسا، فقول لا معنى له، لما بيناه من أن نسبة آخر جزء يرد من الماء على آخر جزء يبقى من النجاسة في المحل نسبة الماء الكثير إلى النجاسة القليلة، وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين، فإنا نعلم قطعا أن الماء الكثير يحيل النجاسة ويقلب عينها إلى الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن الماء اللكثير لا تفسده النجاسة القليلة، فإذا تابع الغاسل صب الماء على المكان النجس أو العضو النجس، فيحيل الماء ضرورة عين النجاسة بكثرته، ولا فرق بين الماء الكثير أن يرد على النجاسة الواحدة بعينها دفعة، أو يرد عليها جزءا بعد جزء، فإذا هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك، والموضعان في غاية التباين، فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة من سبب اختلاف الناس فيها وترجيح أقوالهم فيها، ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك، لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان عنه، وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه، فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض‏.‏
-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطاهرة التي تنفك منه غالبا متى غيرت أحد أوصافه، فإنه طاهر عند جميع العلماء غير مطهر عند مالك والشافعي، ومطهر عند أبي حنيفة ما لم يكن التغير عن طبخ‏.‏ وسبب اختلافهم هو خفاء تناول اسم الماء المطلق للماء الذي خالطه أمثال هذه الأشياء، أعني هل يتناوله أو لا يتناوله‏؟‏ فمن رأى أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق وإنما يضاف إلى الشيء الذي خالطه فيقال ماء كذا لا ماء مطلق لم يجز الوضوء به، إذ كان الوضوء إنما يكون بالماء المطلق، ومن رأى أنه يتناوله اسم الماء المطلق أجاز به الوضوء، ولظهور عدم تناول اسم الماء للماء المطبوخ مع شيء طاهر اتفقوا على أنه لا يجوز الوضوء به، وكذلك في مياه النبات المستخرجة منه إلا ما في كتاب ابن شعبان من أجازة طهر الجمعة بماء الورد‏.‏ والحق أن الاختلاط يختلف بالكثرة والقلة، فقد يبلغ من الكثرة إلى حد لا يتناوله اسم الماء المطلق مثل ما يقال ماء الغسل، وقد لا يبلغ إلى ذلك الحد، وبخاصة متى تغيرت منه الريح فقط، ولذلك لم يعتبر الريح قوم ممن منعوا الماء المضاف، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأم عطية عند أمره إياها بغسل ابنته ‏"‏اغسلنها بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور‏"‏ فهذا ماء مختلط ولكنه لم يبلغ من الاختلاط بحيث يسلب عنه اسم الماء المطلق، وقد روي عن مالك باعتبار الكثرة في المخالطة والقلة والفرق بينهما، فأجازه مع القلة وإن ظهرت الأوصاف، ولم يجزه مع الكثرة‏.‏
-‏(‏المسلئة الثالثة‏)‏ الماء المستعمل في الطهارة‏.‏ اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال‏:‏ فقوم لم يجيزوا الطهارة به على كل حال، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وقوم كرهوه ولم يجيزوا التيمم مع وجوده، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم لم يروا بينه وبين الماء المطلق فرقا، وبه قال أبو ثور وداود وأصحابه، وشذ أبو يوسف فقال إنه نجس‏.‏ وسبب الخلاف في هذا أيضا ما يظن من أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق حتى إن بعضهم غلا فظن أن اسم الغسالة أحق به من اسم الماء، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصحابه يقتتلون على فضل وضوئه، ولا بد أن يقع من الماء المستعمل في الإناء الذي بقي فيه الفضل‏.‏ وبالجملة فهو ماء مطلق لأنه في الأغلب ليس ينتهي إلى أن يتغير أحد أوصافه بدنس الأعضاء التي تغسل به، فإن انتهى إلى ذلك، فحكمه حكم الماء الذي تغير أحد أوصافه بشيء طاهر، وإن كان هذا تعافه النفوس أكثر، وهذا لحظ من كرهه، وأما من زعم أنه نجس فلا دليل معه‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ اتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين وبهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافا كثيرا، فمنهم من زعم أن كل حيوان طاهر السؤر، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير فقط، وهذان القولان مرويان عن مالك، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير والكلب، وهو مذهب الشافعي ومنهم من استثنى من ذلك السباع عامة، وهو مذهب ابن القاسم، ومنهم من ذهب إلى أن الأسآر تابعة للحوم، فإن كانت اللحوم محرمة فالأسآر نجسة، وإن كانت مكروهة فالأسآر مكروهة، وإن كانت مباحة فالأسآر طاهرة‏.‏ وأما سؤر المشرك فقيل إنه نجس، وقيل إنه مكروه إذا كان يشرب الخمر، وهو مذهب ابن القاسم، وكذلك عنده جميع أسآر الحيوانات التي لا تتوقى النجاسة غالبا مثل الدجاج المخلاة والإبل الجلالة والكلاب المخلاة‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء‏:‏ أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب‏.‏ والثاني معارضته لظاهر الآثار‏.‏ والثالث معارضة الآثار بعضها بعضا في ذلك‏.‏ أما القياس فهو أنه لما كان الموت من غير ذكاة هو سبب نجاسة عين الحيوان بالشرع وجب أن تكون الحياة هي سبب طهارة عين الحيوان، وإذا كان ذلك كذلك فكل حي طاهر العين، وكل طاهر العين فسؤره طاهر‏.‏ وأما ظاهر الكتاب فإنه عارض هذا القياس في الخنزير والمشرك، وذلك أن الله تعالى يقول في الخنزير ‏{‏فإنه رجس‏}‏ وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه، ولذلك استثنى قوم من الحيوان الحي الخنزير فقط، ومن لم يستثنه حمل قوله ‏"‏رجس‏"‏ على جهة الذم له‏.‏ وأما المشرك ففي قوله تعالى ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ فمن حمل هذا أيضا على ظاهره استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين، ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه‏.‏
وأما الآثار فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع‏.‏ أما الكلب فحديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات‏"‏ وفي بعض طرقه ‏"‏أولاهن بالتراب‏"‏ وفي بعضها ‏"‏وعفروه الثامنة بالتراب‏"‏ وأما الهر فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين‏"‏ وقرة ثقة عند أهل الحديث‏.‏ وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال ‏"‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال‏:‏ إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا‏"‏‏.‏ وأما تعارض الآثار في هذا الباب، فمنها أنه روي عنه ‏"‏أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع، فقال ‏"‏لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شرابا وطهورا‏"‏ ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله ‏"‏يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا‏"‏ وحديث أبي قتادة أيضا الذي خرجه مالك ‏"‏أن كبشة سكبت له وضوء فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات‏"‏
فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور؛ فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى ‏
{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته، وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال‏:‏ إن هذا الغسل إنما هو عباده، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده‏.‏ وأما الشافعي فاستثنى الكلب من الحيوان الحي ورأى أن ظاهر هذا الحديث يوجب نجاسة سؤره، وأن لعابه هو النجس لا عينه فيما أحسب، وأنه يجب أن يغسل الصيد منه، وكذلك استثنى الخنزير لمكان الآية المذكورة‏.‏ وأما أبو حنيفة فإنه زعم أن المفهوم من هذه الآثار الواردة بنجاسة سؤر السباع والهر والكلب هو من قبل تحريم لحومها، وأن هذا من باب الخاص أريد به العام فقال‏:‏ الأسآر تابعة للحوم الحيوان، وأما بعض الناس فاستثنى من ذلك الكلب والهر والسباع على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك‏.‏ وأما بعضهم فحكم بطهارة سؤر الكلب والهر، فاستثنى من ذلك السباع فقط‏.‏ أما سؤر الكلب فللعدد المشترط في غسله، ولمعارضة ظاهر الكتاب له ولمعارضة حديث أبي قتادة له، إذ علل عدم نجاسة الهرة من قبل أنها من الطوافين والكلب طواف‏.‏ وأما الهرة فمصيرا إلى ترجيح حديث أبي قتادة على حديث قرة عن ابن سيرين، وترجيح حديث ابن عمر على حديث عمر، وما ورد في معناه لمعارضة حديث أبي قتادة له بدليل الخطاب؛ وذلك أنه لما علل عدم النجاسة في الهرة بسبب الطواف فهم منه أن ما ليس بطواف وهي السباع فأسآرها محرمة، وممن ذهب هذا المذهب ابن القاسم،
وأما أبو حنيفة فقال كما قلنا بنجاسة سؤر الكلب، ولم ير العدد في غسله شرطا في طهارة الإناء الذي ولغ فيه لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات، أعني أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط، وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها‏.‏ قال القاضي‏:‏ فاستعمل من هذا الحديث بعضا ولم يستعمل بعضا، أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول، ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول، وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث، فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة وقادتهم إلى الافتراق فيها، والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ، ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة أسآر الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس، وكذلك ظاهر الحديث، وعليه أكثر الفقهاء، أعني على القول بنجاسة سؤر الكلب، فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه، أعني أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء، وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد، فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها‏.‏ قال القاضي‏:‏ وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة‏.‏ بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا، فيخاف من ذلك السم‏.‏ قال‏:‏ ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض، وهذا الذي قال رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل، وهذا طاهر بنفسه، وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال‏:‏ إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه، وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب، لا في مباديها وفي أول حدوثها، فلا معنى لاعتراضهم‏.‏ وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء، وإنما فيه ذكر الإناء، ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة، أعني قبل أن يستحكم به الكلب، ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع، فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس، وتعليل ذلك بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء‏.‏ وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الخضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل، إلا أن يقول قائل‏:‏ إن ذلك أعني النهي من باب التحريج في اتخاذه‏.‏
-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏ اختلف العلماء في أسآر الطهر على خمسة أقوال‏:‏ فذهب قوم إلى أن أسآر الطهر طاهرة بإطلاق، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة‏.‏ وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة، ويجوز للمرأة أن تتطهر بسؤر الرجل، وذهب آخرون إلى أنه يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ما لم تكن المرأة جنبا أو حائضا، وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه إلا أن يشرعا معا‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يجوز وإن شرعا معا، وهو مذهب أحمد بن حنبل‏.‏ وسبب اختلافهم في هذا اختلاف الآثار، وذلك أن في ذلك أربعة آثار‏:‏ أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة هو وأزواجه من إناء واحد، والثاني حديث ميمونة أنه اغتسل من فضلها، والثالث حديث الحكم الغفاري أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، خرجه أبو داود والترمذي‏.‏ والرابع حديث عبد الله بن سرجس قال ‏"‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان معا‏"‏‏.‏ فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث مذهبين‏:‏ مذهب الترجيح، ومذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض، أما من رجح حديث اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد على سائر الأحاديث، لأنه مما اتفق الصحاح على تخريجه، ولم يكن عنده فرق بين أن يغتسلا معا أو يغتسل كل منهما بفضل صاحبه، لأن المغتسلين معا كل واحد منهما مغتسل بفضل صاحبه، وصحح حديث ميمونة مع هذا الحديث ورجحه على حديث الغفاري فقال بطهر الأسآر على الإطلاق‏.‏ وأما من رجح حديث الغفاري على حديث ميمونة وهو مذهب أبي محمد بن حزم‏.‏ وجمع بين حديث الغفاري وحديث اغتسال النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه من إناء واحد بأن فرق بين الاغتسال معا، وبين أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر وعمل على هذين الحديثين فقط أجاز للرجل أن يتطهر مع المرأة من إناء واحد، ولم يجز أن يتطهر هو من فضل طهرها، وأجاز أن تتطهر هي من فضل طهره‏.‏ وأما من ذهب مذهب الجمع بين الأحاديث كلها ما خلا حديث ميمونة، فإنه أخذ بحديث عبد الله بن سرجس، لأنه يمكن أن يجتمع عليه حديث الغفاري، وحديث غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد ويكون فيه زيادة، وهي أن لا تتوضأ المرأة أيضا بفضل الرجل، لكن يعارضه حديث ميمونة، وهو حديث خرجه مسلم، لكن قد علله كما قلنا بعض الناس من أن بعض رواته قال فيه‏:‏ أكثر ظني أو أكثر علمي أن أبا الشعثاء حدثني، وأما من لم يجز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه ولا يشرعان معا، فلعله لم يبلغه من الأحاديث إلا حديث الحكم الغفاري وقاس الرجل على المرأة‏.‏ وأما من نهى عن سؤر المرأة الجنب والحائض فقط، فلست أعلم له حجة إلا أنه مروي عن بعض السلف أحسبه عن ابن عمر‏.‏
-‏(‏المسألة السادسة‏)‏ صار أبو حنيفة من بين معظم أصحابه وفقهاء الأمصار إلى إجازة الوضوء بنبيذ التمر في السفر لحديث ابن عباس ‏"‏أن ابن مسعود خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل معك من ماء‏؟‏ فقال‏:‏ معي نبيذ في إداوتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اصبب فتوضأ به، وقال‏:‏ شراب وطهور‏"‏ وحديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن مسعود بمثله، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ثمرة طيبة وماء طهور‏"‏ وزعموا أنه منسوب إلى الصحابة علي وابن عباس، وأنه لا مخالف لهم من الصحابة، فكان كالإجماع عندهم‏.‏ ورد أهل الحديث هذا الخبر ولم يقبلوه لضعف رواته، ولأنه قد روي من طرق أوثق من هذه الطرق أن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن‏.‏ واحتج الجمهور لرد هذا الحديث بقوله تعالى ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيموا صعيدا طيبا‏}‏ قالوا فلم يجعل ههنا وسطا بين الماء والصعيد، وبقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء إلى عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته‏"‏ ولهم أن يقولوا إن هذا قد أطلق عليه في الحديث اسم الماء، والزيادة لا تقتضي نسخا فيعارضها الكتاب، لكن هذا مخالف لقولهم إن الزيادة نسخ‏.‏

الجزء الأول بداية المجتهد ونهاية المقتصد الباب الرابع في نواقض الوضوء‏

( 3 من 28 )



الباب الرابع في نواقض الوضوء‏.‏
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى ‏
{‏أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏}‏ وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ‏"‏ واتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي لصحة الآثار في ذلك إذا كان خروجها على وجه الصحة‏.‏
-‏(‏ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل‏)‏ تجري منه مجرى القواعد لهذا الباب‏.‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلف علماء الأمصار في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد من النجس على ثلاثة مذاهب‏:‏ فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج وعلى أي جهة خرج، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وجماعة ولهم من الصحابة السلف فقالوا‏:‏ كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف الكثير والفصد والحجامة والقيء إلا البلغم عند أبي حنيفة‏.‏ وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إنه إذا ملأ الفم ففيه الوضوء، ولم يعتبر أحد من هؤلاء اليسير من الدم إلا مجاهد، واعتبر قوم آخرون المخرجين الذكر والدبر، فقالوا‏:‏ كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء من أي شيء خرج من دم أو حصا أو بلغم وعلى أي وجه خرج كان خروجه على سبيل الصحة أو على سبيل المرض، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه ومحمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك‏.‏ واعتبر قوم آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج، فقالوا‏:‏ كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوءا ولا في السلس، وممن قال بهذا القول مالك وجل أصحابه‏.‏ والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك‏.‏ تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات‏:‏ أحدها أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله‏.‏ الاحتمال الثاني أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن لكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس‏.‏ والاحتمال الثالث أن يكون الحكم أيضا إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين، فيكون على هذين القولين الأخيرين ورود الأمر بالوضوء من تلك الأحداث المجمع عليها إنما هو من باب الخاص أريد به العام ويكون عند مالك وأصحابه إنما هو من باب الخاص المحمول على خصوصه؛ فالشافعي وأبو حنيفة اتفقا على أن الأمر بها هو من باب الخاص أريد به العام، واختلفا أي عام هو الذي قصد به‏؟‏ فمالك يرجح مذهبه بأن الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه حتى يدل الدليل على غير ذلك، والشافعي محتج بأن المراد به المخرج لا الخارج باتفاقهم على إيجاب الوضوء من الريح الذي يخرج من أسفل، وعدم إيجاب الوضوء منه إذا خرج من فوق وكلاهما ذات واحدة، والفرق بينهما اختلاف المخرجين، فكان هذا تنبيها على أن الحكم للمخرج وهو ضعيف لأن الريحين مختلفان في الصفة والرائحة، وأبو حنيفة يحتج لأن المقصود بذلك هو الخارج النجس لكون النجاسة مؤثرة في الطهارة، وهذه الطهارة وإن كانت طهارة حكمية فإن فيها شبها من الطهارة المعنوية، أعني طهارة النجس، وبحديث ثوبان ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ‏"‏ وبما روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما من إيجابهما الوضوء من الرعاف وبما روي من أمره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، فكان المفهوم من هذا كله عند أبي حنيفة الخارج النجس، وإنما اتفق الشافعي وأبو حنيفة على إيجاب الوضوء من الأحداث المتفق عليها وإن خرجت على جهة المرض لأمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند كل صلاة للمستحاضة والاستحاضة مرض‏.‏ وأما مالك فرأى أن المرض له ههنا تأثير في الرخصة قياسا أيضا على ما روي أيضا من أن المستحاضة لم تؤمر إلا بالغسل فقط، وذلك أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذا هو متفق على صحته، ويختلف في هذه الزيادة فيه، أعني الأمر بالوضوء لكل صلاة، ولكن صححها أبو عمر بن عبد البر، قياسا على من يغلبه الدم من جرح ولا ينقطع، مثل ما روي أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دما‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب‏:‏ فقوم رأوا أنه حدث، فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء، وقوم رأوا أنه ليس بحدث فلم يوجبوا منه الوضوء إلا إذا تيقن بالحدث على مذهب من لا يعتبر الشك، وإذا شك على مذهب من يعتبر الشك حتى إن بعض السلف كان يوكل بنفسه إذا نام من يتفقد حاله، أعني هل يكون منه حدث أم لا‏؟‏ وقوم فرقوا بين النوم القليل الخفيف والكثير المستثقل، فأوجبوا في الكثير المستثقل الوضوء دون القليل، وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور‏.‏ ولما كانت بعض الهيئات يعرض فيها الاستثقال من النوم أكثر من بعض، وكذلك خروج الحدث اختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك‏:‏ من نام مضطجعا أو ساجدا فعليه الوضوء، طويلا كان النوم أو قصيرا‏.‏ ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول ذلك به‏.‏ واختلف القول في مذهبه في الراكع، فمرة قال حكمه حكم القائم، ومرة قال حكمه حكم الساجد‏.‏ وأما الشافعي فقال‏:‏ على كل نائم كيفما نام الوضوء إلا من نام جالسا، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا وضوء إلا على من نام مضطجعا، وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أن ههنا أحاديث يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلا، كحديث ابن عباس ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل إلى ميمونة فنام عندها حتى سمعنا غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ‏"‏ وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لعله يذهب أن يستغفر ربه فيسب نفسه‏"‏ وما روي أيضا ‏"‏أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون‏"‏ وكلها آثار ثابتة وههنا أيضا أحاديث يوجب ظاهرها أن النوم حدث، وأبينها في ذلك حديث صفوان بن عسال وذلك أنه قال ‏"‏كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن لا ننزع خفافنا من غائط وبول ونوم ولا ننزعها إلا من جنابة‏"‏ فسوى بين البول والغائط والنوم، صححه الترمذي‏.‏ ومنها حديث أبي هريرة المتقدم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه‏"‏ فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره، وكذلك يدل ظاهر آية الوضوء عند من كان عنده المعنى في قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ أي إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم وغيره من السلف فلما تعارضت ظواهر هذه الآثار ذهب العلماء فيها مذهبين‏:‏ مذهب الترجيح، ومذهب الجمع؛ فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط وجوب الوضوء من النوم أصلا على ظاهر الأحاديث التي تسقطه وإما أوجبه من قليله أو كثيره على ظاهر الأحاديث التي توجبه أيضا، أعني على حسب ما ترجح عنده من الأحاديث الموجبة، أو من الأحاديث المسقطة؛ ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبة للوضوء منه على الكثير والمسقطة للوضوء على القليل، وهو كما قلنا مذهب الجمهور، والجمع أولى من الترجيح ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين‏.‏ وأما الشافعي فإنما حملها على أن استثنى من هيئات النائم الجلوس فقط لأنه قد صح ذلك عن الصحابة، أعني أنهم كانوا ينامون جلوسا ولا يتوضئون ويصلون‏.‏ وإنما أوجبه أبو حنيفة في النوم والاضطجاع فقط لأن ذلك ورد في حديث مرفوع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏إنما الوضوء على من نام مضطجعا‏"‏ والرواية بذلك ثابتة عن عمر‏.‏ وأما مالك فلما كان النوم عنده إنما ينقض الوضوء من حيث كان غالبا سبب للحدث راعى فيه ثلاثة أشياء‏:‏ الاستثقال أو الطول أو الهيئة، فلم يشترط في الهيئة التي يكون منها خروج الحدث غالبا لا الطول ولا الاستثقال، واشترط ذلك في الهيئات التي لا يكون خروج الحدث منها غالبا‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ اختلف العلماء في إيجاب الوضوء من لمس النساء باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة، فذهب قوم إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بينه وبينها حجاب ولا ستر فعليه الوضوء، وكذلك من قبلها لأن القبلة عندهم لمس ما، سواء التذ أم لم يلتذ وبهذا القول قال الشافعي وأصحابه، إلا أنه مرة فرق بين اللامس والملموس، فأوجب الوضوء على اللامس دون الملموس، ومرة سوى بينهما، ومرة أيضا فرق بين ذوات المحارم والزوجة، فأوجب الوضوء من لمس الزوجة دون ذوات المحارم، ومرة سوى بينهما‏.‏ وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة أو قصد اللذة في تفصيل لهم في ذلك وقع بحائل أو بغير حائل بأي عضو اتفق ما عدا القبلة، فإنهم لم يشترطوا لذة في ذلك، وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه، ونفى قوم إيجاب الوضوء من لمس النساء وهو مذهب أبي حنيفة، ولكل سلف من الصحابة إلا اشتراط اللذة فإني لا أذكر أحدا من الصحابة اشترطها‏.‏ وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، ومن هؤلاء من رآه من باب العام أريد به الخاص فاشترط فيه اللذة، ومنهم من رآه من باب العام أريد به العام فلم يشترط اللذة فيه، ومن اشترط اللذه فإنما دعاه إلى ذلك ما عارض عموم الآية من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمس عائشة عند سجوده بيده وربما لمسته وخرج أهل الحديث حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقلت من هي إلا أنت‏؟‏ فضحكت‏"‏ قال أبو عمر هذا الحديث وهنه الحجازيون وصححه الكوفيون، وإلى تصحيحه مال أبو عمر بن عبد البر، قال‏:‏ وروى هذا الحديث أيضا من طريق معبد بن نباتة، وقال الشافعي إن ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوءا‏.‏ وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد وينطلق مجازا على الجماع، وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز؛ ولأولئك أن يقولوا إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة‏.‏ والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبا من السواء أنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازا، لأن الله تبارك وتعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس، وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير على ما سيأتي بعد، وترتفع المعارضة التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر‏.‏ وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف، فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحد من المعاني التي يدل عليها الاسم لا جميع المعاني التي يدل عليها، وهذا بين بنفسه في كلامهم‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ مس الذكر‏.‏ اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب، فمنهم من رأى الوضوء فيه كيفما مسه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه وأحمد وداود، ومنهم من لم ير فيه وضوءا أصلا وهو أبو حنيفة وأصحابه، ولكلا الفريقين سلف من الصحابة والتابعين‏.‏ وقوم فرقوا بين أن يمسه بحال أو لا يمسه بتلك الحال، وهؤلاء افترقوا فيه فرقا‏:‏ فمنهم من فرق فيه بين أن يلتذ أو لا يلتذ‏.‏ ومنهم من فرق بين أن يمسه بباطن الكف أو لا يمسه، فأوجبوا الوضوء مع اللذة ولم يوجبوه مع عدمها، وكذلك أوجبه قوم مع المس بباطن الكف ولم يوجبوه مع المس بظاهرها، وهذان الاعتباران مرويان عن أصحاب مالك، وكان اعتبار باطن الكف راجع إلى اعتبار سبب اللذة‏.‏ وفرق قوم في ذلك بين العمد والنسيان، فأوجبوا الوضوء منه مع العمد ولم يوجبوه مع النسيان، وهو مروي عن مالك، وهو قول داود وأصحابه‏.‏ ورأى قوم أن الوضوء من مسه سنة لا واجب، قال أبو عمر‏:‏ وهذا الذي استقر من مذهب مالك عند أهل المغرب من أصحابه، والرواية عنه فيه مضطربة‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك أن فيه حديثين متعارضين‏:‏ أحدهما الحديث الوارد من طريق بسرة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ‏"‏ وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، خرجه مالك في الموطأ، وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وضعفه أهل الكوفة؛ وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة، وكان أحمد بن حنبل يصححه، وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة، وكان ابن السكن أيضا يصححه، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم‏.‏ والحديث الثاني المعارض له حديث طلق بن علي قال ‏"‏قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل كأنه بدوي، فقال‏:‏ يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد أن يتوضأ‏؟‏ فقال‏:‏ وهل هو إلا بضعة منك‏؟‏‏"‏ خرجه أيضا أبو داود والترمذي، وصححه كثير من أهل العلم الكوفيون وغيرهم؛ فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث أحد مذهبين‏:‏ إما مذهب الترجيح أو النسخ، وإما مذهب الجمع، فمن رجح حديث بسرة أو رآه ناسخا لحديث طلق بن علي قال بإيجاب الوضوء من مس الذكر، ومن رجح حديث طلق بن علي أسقط وجوب الوضوء من مسه، ومن رام أن يجمع بين الحديثين أوجب الوضوء منه في حال ولم يوجبه في حال، أو حمل حديث بسرة على الندب، وحديث طلق بن علي نفى الوجوب والاحتجاجات التي يحتج بها كل واحد من الفريقين في ترجيح الحديث الذي رجحه كثيرة يطول ذكرها، وهي موجودة في كتبهم، ولكن نكتة اختلافهم هو ما أشرنا إليه‏.‏
-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏ اختلف الصدر الأول في إيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار لاختلاف الآثار الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول على سقوطه، إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة، ولما ورد من حديث جابر أنه قال‏:‏ ‏"‏كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار‏"‏ خرجه أبو داود‏.‏ ولكن ذهب قوم من أهل الحديث أحمد وإسحاق وطائفة غيرهم أن الوضوء يجب فقط من أكل لحم الجزور لثبوت الحديث الوارد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام‏.‏
-‏(‏المسألة السادسة‏)‏‏:‏ شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية، وهو أن قوما ضحكوا في الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء والصلاة‏.‏ ورد الجمهور هذا الحديث لكونه مرسلا ولمخالفته للأصول، وهو أن يكون شيء ما ينقض الطهارة في الصلاة ولا ينقضها في غير الصلاة وهو مرسل صحيح‏.‏
-‏(‏المسألة السابعة‏)‏ وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت، وفيه أثر ضعيف ‏"‏من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ‏"‏ وينبغي أن تعلم أن جمهور العلماء أوجبوا الوضوء من زوال العقل بأي نوع كان من قبل إغماء أو جنون أو سكر، وهؤلاء كلهم قاسوه على النوم، أعني أنهم رأوا أنه إذا كان يوجب الوضوء في الحالة التي هي سبب للحدث غالبا وهو الاستثقال، فأحرى أن يكون ذهاب العقل سببا لذلك، فهذه هي مسائل هذا الباب المجمع عليها، والمشهورات من المختلف فيها، وينبغي أن نصير إلى الباب الخامس‏.‏
الباب الخامس‏.‏ وهو معرفة الأفعال التي تشترط هذه الطهارة في فعلها‏.‏
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى ‏
{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لايقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول‏"‏ فاتفق المسلمون على أن الطهارة شرط من شروط الصلاة لمكان هذا، وإن كانوا اختلفوا هل هي شرط من شروط الصحة أو من شروط الوجوب، ولم يختلفوا أن ذلك شرط في جميع الصلوات إلا في صلاة الجنازة وفي السجود، أعني سجود التلاوة، فإن فيه خلافا شاذا، والسبب في ذلك الاحتمال العارض في انطلاق اسم الصلاة على الصلاة على الجنائز وعلى السجود، فمن ذهب إلى أن اسم الصلاة ينطلق على صلاة الجنائز وعلى السجود نفسه وهم الجمهور اشترط هذه الطهارة فيهما‏:‏ ومن ذهب إلى أنه لا ينطلق عليهما إذ كانت صلاة الجنائز ليس فيها ركوع ولا سجود، وكان السجود أيضا ليس فيه قيام ولا ركوع لم يشترطوا هذه الطهارة فيهما، ويتعلق بهذا الباب مع هذه المسألة أربع مسائل‏:‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ هل هذه الطهارة شرط في مس المصحف أم لا‏؟‏ فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنها شرط في مس المصحف، وذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بشرط في ذلك، والسبب في اختلافهم تردد مفهوم قوله تعالى ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ بين أن يكون المطهرون هم بنو آدم وبين أن يكونوا هم الملائكة، وبين أن يكون هذا الخبر مفهمومه النهي، وبين أن يكون خبرا لا نهيا، فمن فهم من المطهرون بني آدم، وفهم من الخبر النهي قال‏:‏ لا يجوز أن يمس المصحف إلا طاهر، ومن فهم منه الخبر فقط وفهم من لفظ المطهرون الملائكة قال‏:‏ إنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مس المصحف، وإذا لم يكن هنالك دليل لا من كتاب ولا من سنة ثابتة بقي الأمر على البراءة الأصلية وهي الإباحة؛ وقد احتج الجمهور لمذهبهم بحديث عمرو بن حزم ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب‏:‏ لا يمس القرآن إلا طاهر‏"‏ وأحاديث عمرو بن حزم اختلف الناس في وجوب العمل بها لأنها مصحفة، ورأيت ابن المفوز يصححها إذا روتها الثقات لأنها كتاب النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأهل الظاهر يردونهما، ورخص مالك للصبيان في مس المصحف على غير طهر لأنهم غير مكلفين‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ اختلف الناس في إيجاب الوضوء على الجنب في أحوال‏:‏ أحدها إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ فذهب الجمهور إلى استحبابه دون وجوبه وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر ‏"‏أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ توضأ واغسل ذكرك ثم نم‏"‏ وهو أيضا مروي عنه من طريق عائشة‏.‏ وذهب الجهمور إلى حمل الأمر بذلك على الندب والعدول به عن ظاهره لمكان عدم مناسبة وجوب الطهارة لإرادة النوم، أعني المناسبة الشرعية، وقد احتجوا أيضا لذلك بأحاديث أثبتها حديث ابن عباس ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتي بطعام، فقالوا‏:‏ ألا نأتيك بطهر‏؟‏ فقال‏:‏ أأصلي فأتوضأ‏.‏ وفي بعض رواياته‏:‏ فقيل له‏:‏ ألا تتوضأ‏؟‏ فقال‏:‏ ما أردت الصلاة فأتوضأ‏"‏ والاستدلال به ضعيف، فإنه من باب مفهوم الخطاب من أضعف أنواعه، وقد احتجوا بحديث عائشة ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام كان ينام وهو جنب لا يمس الماء‏"‏ إلا أنه حديث ضعيف‏.‏ وكذلك اختلفوا في وجوب الوضوء على الجنب الذي يريد أن يأكل أو يشرب وعلى الذي يريد أن يعاود أهله، فقال الجمهور في هذا كله بإسقاط الوجوب لعدم مناسبة الطهارة لهذه الأشياء، وذلك أن الطهارة إنما فرضت في الشرع لأحوال التعظيم كالصلاة، وأيضا فلمكان تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏أنه أمر الجنب إذا أراد أن يعاود أهله أن يتوضأ‏"‏ وروي عنه أنه كان يجامع ثم يعاود ولا يتوضأ‏.‏ وكذلك روي عنه منع الأكل والشرب للجنب حتى يتوضأ‏.‏ وروي عنه إباحة ذلك‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ ذهب مالك والشافعي إلى اشتراط الوضوء في الطواف، وذهب أبو حنيفة إلى إسقاطه‏.‏ وسبب اختلافهم تردد الطواف بين أن يلحق حكمه بحكم الصلاة أو لا يلحق، وذلك أنه ثبت ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع الحائض الطواف كما منعها الصلاة‏"‏ فأشبه الصلاة من هذه الجهة‏.‏ وقد جاء في بعض الآثار تسمية الطواف صلاة، وحجة أبي حنيفة أنه ليس كل شيء منعه الحيض، فالطهارة شرط في فعله إذا ارتفع الحيض كالصوم عند الجمهور‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ ذهب الجمهور إلى أنه يجوز لغير متوضئ أن يقرأ القرآن ويذكر الله، وقال قوم‏:‏ لا يجوز ذلك له إلا أن يتوضأ‏.‏ وسبب الخلاف حديثان متعارضان ثابتان‏:‏ أحدهما حديث أبي جهم قال ‏"‏أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم إنه رد عليه الصلاة والسلام السلام‏"‏‏.‏ والحديث الثاني حديث علي ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة‏"‏ فصار الجمهور إلى أن الحديث الثاني ناسخ للأول، وصار من أوجب الوضوء لذكر الله إلى ترجيح الحديث الأول‏.‏
كتاب الغسل‏.‏
-والأصل في هذه الطهارة قوله تعالى ‏
{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏ والكلام المحيط بقواعدها ينحصر بعد المعرفة بوجوبها وعلى من تجب، ومعرفة ما به تفعل، وهو الماء المطلق في ثلاثة أبواب‏:‏ الباب الأول‏:‏ في معرفة العمل في هذه الطهارة‏.‏ والثاني‏:‏ في معرفة نواقض هذه الطهارة‏.‏ والباب الثالث‏:‏ في معرفة أحكام نواقض هذه الطهارة‏.‏ فأما على من تجب‏؟‏ فعلى كل من لزمته الصلاة ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا خلاف في وجوبها ودلائل ذلك هي دلائل الوضوء بعينها، وقد ذكرناها، وكذلك أحكام المياه، وقد تقدم القول فيها‏.‏
الباب الأول في معرفة العلم في هذه الطهارة‏.‏ وهذا الباب يتعلق به أربع مسائل‏:‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلف العلماء هل من شرط هذه الطهارة إمرار اليد على جميع الجسد كالحال في طهارة أعضاء الوضوء، أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمر يديه على بدنه؛ فأكثر العلماء على أن إفاضة الماء كافية في ذلك‏.‏ وذهب مالك وجل أصحابه والمزني من أصحاب الشافعي إلى أنه إن فات المتطهر موضع واحد من جسده لم يمر يده عليه أن طهره لم يكمل بعد‏.‏ والسبب في اختلافهم اشتراك اسم الغسل ومعارضة ظاهر الأحاديث الواردة في صفة الغسل لقياس الغسل على ذلك في الوضوء، وذلك أن الأحاديث الثابتة التي وردت في صفة غسله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة وميمونة ليس فيها ذكر التدلك، وإنما فيها إفاضة الماء فقط‏.‏ ففي حديث عائشة قالت ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات، ثم يفيض الماء على جلده كله‏"‏ والصفة الواردة في حديث ميمونة قريبة من هذا، إلا أنه أخر غسل رجليه من أعضاء الوضوء إلى آخر الطهر، وفي حديث أم سلمة أيضا، وقد سألته عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏"‏هل تنقض ضفر رأسها لغسل الجنابة، فقال عليه الصلاة والسلام ‏:‏ إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت‏"‏ وهو أقوى في إسقاط التدلك من تلك الأحاديث الأخر، لأنه لا يمكن هنالك أن يكون الواصف لطهره قد ترك التدلك، وأما ههنا فإنما حصر لها شروط الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن صفة الطهارة الواردة من حديث ميمونة وعائشة هي أكمل صفاتها، وأن ما ورد في حديث أم سلمة من ذلك فهو من أركانها الواجبة، وأن الوضوء في أول الطهر ليس من شرط الطهر إلا خلافا شاذا، روي عن الشافعي وفيه قوة من جهة الأحاديث، وفي قول الجمهور قوة من جهة النظر، لأن الطهارة ظاهر من أمرها أنها شرط في صحة الوضوء، لا أن الوضوء شرط في صحتها، فهو من باب معارضة القياس لظاهر الحديث، وطريقة الشافعي تغليب ظاهر الأحاديث على القياس؛ فذهب قوم كما قلنا إلى ظاهر الأحاديث وغلبوا ذلك على قياسها على الوضوء، فلم يوجبوا التدلك، وغلب آخرون قياس هذه الطهارة على الوضوء على ظاهر الأحاديث، فأوجبوا التدلك كالحال في الوضوء، فمن رجح القياس صار إلى إيجاب التدلك، ومن رجح ظاهر الأحاديث على القياس صار إلى إسقاط التدلك، وأعني بالقياس‏:‏ قياس الطهر على الوضوء‏.‏ وأما الاحتجاج من طريق الاسم ففيه ضعف إذ كان اسم الطهر والغسل ينطلق في كلام العرب على المعنيين جميعا على حد سواء‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ اختلفوا هل من شروط هذه الطهارة النية أم لا‏؟‏ كاختلافهم في الوضوء، فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأصحابه إلى أن النية من شروطها، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنها تجزئ بغير نية كالحال في الوضوء عندهم‏.‏ وسبب اختلافهم في الطهر هو بعينه سبب اختلافهم في الوضوء، وقد تقدم ذلك‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في هذه الطهارة أيضا كاختلافهم فيهما في الوضوء‏.‏ أعني هل هما واجبان فيها أم لا‏؟‏ فذهب قوم إلى أنهما غير واجبين فيها، وذهب قوم إلى وجوبهما؛ وممن ذهب إلى عدم وجوبهما مالك والشافعي، وممن ذهب إلى وجوبهما أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أم سلمة للأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام في طهره وذلك أن الأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه في الطهر فيها المضمضة والاستنشاق، وحديث أم سلمة ليس فيه أمر لا بمضمضة ولا باستنشاق، فمن جعل حديث عائشة وميمونة مفسرا لمجمل حديث أم سلمة ولقوله تعالى ‏{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏ أوجب المضمضة والاستنشاق، ومن جعله معارضا جمع بينهما بأن حمل حديثي عائشة وميمونة على الندب، وحديث أم سلمة على الوجوب، ولهذا السبب بعينه اختلفوا في تخليل الرأس هل هو واجب في هذه الطهارة أم لا‏؟‏ ومذهب مالك أنه مستحب، ومذهب غيره أنه واجب، وقد عضد مذهبه من أوجب التخليل بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏ تحت كل شعرة جنابة فأنقوا البشرة وبلوا الشعر‏"‏‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ اختلفوا هل من شرط هذه الطهارة الفور والترتيب، أم ليسا من شروطهما كاختلافهم من ذلك في الوضوء‏؟‏‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك هل فعله عليه الصلاة والسلام محمول على الوجوب أو على الندب‏؟‏ فإنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه ما توضأ قط إلا مرتبا متواليا، وقد ذهب قوم إلى أن الترتيب في هذه الطهارة أبين منها في الوضوء‏.‏ وذلك بين الرأس وسائر الجسد، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة ‏"‏إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي الماء على جسدك‏"‏ وحرف ثم يقتضي الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة‏.‏
الباب الثاني في معرفة نواقض هذه الطهارة‏.‏
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى ‏
{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏ وقوله ‏{‏ويسألونك عن المحيض قل هو أذى‏}‏ الآية‏.‏ واتفق العلماء على وجوب هذه الطهارة من حدثين‏:‏ أحدهما خروج المني على وجه الصحة في النوم أو اليقظة من ذكر كان أو أنثى، إلا ما روي عن النخعي من أنه كان لا يرى على المرأة غسلا من الاحتلام، وإنما اتفق الجمهور على مساواة المرأة في الاحتلام للرجل لحديث أم سلمة الثابت أنها قالت ‏"‏يا رسول الله المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل هل عليها غسل‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا رأت الماء‏"‏‏.‏ وأما الحديث الثاني الذي اتفقوا عليه فهو دم الحيض، أعني إذا انقطع، وذلك أيضا لقوله تعالى ‏{‏ويسألونك عن المحيض‏}‏ الآية، ولتعليمه الغسل من الحيض لعائشة وغيرها من النساء‏.‏ واختلفوا في هذا الباب مما يجري مجرى الأصول في مسئلتين مشهورتين‏.‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلف الصحابة رضي الله عنهم في سبب إيجاب الطهر من الوطء، فمنهم من رأى الطهر واجبا في التقاء الختانين أنزل أم لم ينزل، وعليه أكثر فقهاء الأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وجماعة من أهل الظاهر، وذهب قوم من أهل الظاهر إلى إيجاب الطهر مع الإنزال فقط والسبب في اختلافهم في ذلك تعارض الأحاديث في ذلك، لأنه ورد في ذلك حديثان ثابتان اتفق أهل الصحيح على تخريجهما‏.‏ قال القاضي رضي الله عنه‏:‏ ومتى قلت ثابت، فإنما أعني به ما أخرجه البخاري ومسلم، أو ما اجتمعا عليه‏:‏ أحدهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد أوجب الغسل‏"‏ والحديث الثاني حديث عثمان أنه سئل فقيل له ‏"‏أرأيت الرجل إذا جامع أهله ولم يمن‏؟‏ قال عثمان‏:‏ يتوضأ كما يتوضأ للصلاة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذهب العلماء في هذين الحديثين مذهبين‏:‏ أحدهما مذهب النسخ، والثاني مذهب الرجوع إلى ما عليه الاتفاق عند التعارض الذي لا يمكن الجمع فيه ولا الترجيح‏.‏ فالجمهور رأوا أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عثمان، ومن الحجة لهم على ذلك ما روي عن أبي بن كعب أنه قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل، خرجه أبو داود‏.‏ وأما من رأى أن التعارض بين هذين الحديثين هو مما لا يمكن الجمع فيه بينهما ولا الترجيح فوجب الرجوع عنده إلى ما عليه الاتفاق، وهو وجوب الماء من الماء‏.‏ وقد رحج الجمهور حديث أبي هريرة من جهة القياس، قالوا‏:‏ وذلك أنه لما وقع الإجماع على أن مجاورة الختانين توجب الحد وجب أن يكون هو الموجب للغسل، وحكموا أن هذا القياس مأخوذ عن الخلفاء الأربعة، ورجح الجمهور ذلك أيضا من حديث عائشة لأخبارها ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجه مسلم‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ اختلف العلماء في الصفة المعتبرة في كون خروج المني موجبا للطهر‏.‏ فذهب مالك إلى اعتبار اللذة في ذلك‏.‏ وذهب الشافعي إلى أن نفس خروجه هو الموجب للطهر سواء خرج بلذة أو بغير لذة‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك هو شيئان‏:‏ أحدهما هل اسم الجنب ينطلق على الذي أجنب على الجهة الغير المعتادة أم ليس ينطلق عليه‏؟‏ فمن رأى أنه إنما ينطلق على الذي أجنب على طريق العادة لم يوجب الطهر في خروجه من غير لذة، ومن رأى أنه ينطلق على خروج المني كيفما خرج أوجب منه الطهر وإن لم يخرج مع لذة‏.‏ والسبب الثاني تشبيه خروجه بغير لذة بدم الاستحاضة، واختلافهم في خروج الدم على جهة الاستحاضة هل يوجب طهرا أم ليس يوجبه‏؟‏ فسنذكره في باب الحيض وإن كان من هذا الباب‏.‏
وفي المذهب في هذا الباب فرع، وهو إذا انتقل من أصل مجاريه بلذة ثم خرج في وقت آخر بغير لذة مثل أن يخرج من المجامع بعد أن يتطهر، فقيل يعيد الطهر، وقيل لا يعيده، وذلك أن هذا النوع من الخروج صحبته اللذة في بعض نقلته ولم تصحبه في بعض، فمن غلب حال اللذة قال‏:‏ يجب الطهر، ومن غلب حال عدم اللذة قال‏:‏ لا يجب عليه الطهر‏.‏
الباب الثالث‏.‏ في أحكام هذين الحدثين أعني الجنابة والحيض‏.‏
أما أحكام الحدث الذي هو الجنابة، ففيه ثلاث مسائل‏:‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلف العلماء في دخول المسجد للجنب على ثلاثة أقوال‏:‏ فقوم منعوا ذلك بإطلاق، وهو مذهب مالك وأصحابه؛ وقوم منعوا ذلك إلا لعابر فيه لا مقيم ومنهم الشافعي؛ وقوم أباحوا ذلك للجميع، ومنهم داود وأصحابه فيما أحسب‏.‏ وسبب اختلاف الشافعي وأهل الظاهر هو تردد قوله تبارك وتعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ الآية، بين أن يكون في الآية مجاز حتى يكون هنالك محذوف مقدر وهو موضع الصلاة‏:‏ أي لا تقربوا موضع الصلاة، ويكون عابر السبيل استثناء من النهي عن قرب موضع الصلاة، وبين أن لا يكون هنالك محذوف أصلا وتكون الآية على حقيقتها، ويكون عابر السبيل هو المسافر الذي عدم الماء وهو جنب، فمن رأى أن في الآية محذوفا أجاز المرور للجنب في المسجد ومن لم ير ذلك لم يكن عنده في الآية دليل على منع الجنب الإقامة في المسجد وأما من منع العبور في المسجد فلا أعلم له دليلا إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏لا أحل المسجد لجنب ولا حائض‏"‏ وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث، واختلافهم في الحائض في هذا المعنى هو اختلافهم في الجنب‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏:‏ مس الجنب المصحف‏)‏ ذهب قوم إلى إجازته وذهب الجهمور إلى منعه، وهم الذين منعوا أن يمسه غير متوضئ‏.‏ وسبب اختلافهم هو سبب اختلافهم في منع غير المتوضئ أن يمسه أعني قوله ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ وقد ذكرنا سبب الاختلاف في الآية فيما تقدم، وهو بعينه سبب اختلافهم في منع الحائض مسه‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة‏:‏ قراءة القرآن للجنب‏)‏ اختلف الناس في ذلك، فذهب الجمهور إلى منع ذلك، وذهب قوم إلى إباحته، والسبب في ذلك الاحتمال المتطرق إلى حديث علي أنه قال ‏"‏كان عليه الصلاة والسلام لا يمنعه من قراءة القرآن شيء إلا الجنابة‏"‏ وذلك أن قوما قالوا‏:‏ إن هذا لا يوجب شيئا، لأنه ظن من الراوي، ومن أين يعلم أحد أن ترك القراءة كان لموضع الجنابة إلا لو أخبره بذلك‏؟‏ والجمهور رأوا أنه لم يكن علي رضي الله عنه ليقول هذا عن توهم ولا ظن، وإنما قاله عن تحقق، وقوم جعلوا الحائض في هذا الاختلاف بمنزلة الجنب، وقوم فرقوا بينهما، فأجازوا للحائض القراءة القليلة استحسانا لطول مقامها حائضا، وهو مذهب مالك، فهذه هي أحكام الجنابة‏.‏
-‏(‏وأما أحكام الدماء الخارجة من الرحم‏)‏ فالكلام المحيط بأصولها ينحصر في ثلاثة أبواب‏:‏ الأول‏:‏ معرفة أنواع الدماء الخارجة من الرحم‏.‏ والثاني‏:‏ معرفة العلامات التي تدل على انتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر أو الاستحاضة، والاستحاضة أيضا إلى الطهر‏.‏ والثالث‏:‏ معرفة أحكام الحيض والاستحاضة‏:‏ أعني موانعهما وموجباتهما‏.‏
ونحن نذكر في كل باب من هذه الأبواب الثلاثة من المسائل ما يجري مجرى القواعد والأصول لجميع ما في هذا الباب على ما قصدنا إليه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه‏.‏
الباب الأول‏.‏
-اتفق المسلمون على أن الدماء التي تخرج من الرحم ثلاثة‏:‏ دم حيض، وهو الخارج على جهة الصحة، ودم استحاضة، وهو الخارج على جهة المرض، وأنه غير دم الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إنما ذلك عرق وليس بالحيضة‏"‏‏.‏ ودم نفاس، وهو الخارج مع الولد‏.‏
الباب الثاني‏.‏
-أما معرفة علامات انتقال هذه الدماء بعضها إلى بعض، وانتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر، فإن معرفة ذلك في الأكثر تنبني على معرفة أيام الدماء المعتادة وأيام الأطهار، ونحن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول وهي سبع مسائل‏:‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلف العلماء في أكثر أيام الحيض وأقلها وأقل أيام الطهر، فروي عن مالك أن أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة‏:‏ أكثره عشرة أيام، وأما أقل أيام الحيض فلا حد لها عند مالك، بل قد تكون الدفعة الواحدة عنده حيضا، إلا أنه لا يعتد بها في الأقراء في الطلاق‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ أقله يوم وليلة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ أقله ثلاثة أيام‏.‏ وأما أقل الطهر فاضطربت فيه الروايات عن مالك، فروي عنه عشرة أيام، وروي عنه ثمانية أيام، وروي خمسة عشر يوما، وإلى هذه الرواية مال البغدايون من أصحابه، وبها قال الشافعي وأبو حنيفة، وقيل سبعة عشر يوما، وهو أقصى ما انعقد عليه الإجماع فيما أحسب، وأما أكثر الطهر فليس له عندهم حد؛ وإذا كان هذا موضوعا من أوقاويلهم فمن كان لأقل الحيض عنده قدر معلوم وجب أن يكون ما كان أقل من ذلك القدر إذا ورد في سن الحيض عنده استحاضة، ومن لم يكن لأقل الحيض عنده قدر محدود وجب أن تكون الدفعة عنده حيضا، ومن كان أيضا عنده أكثره محدودا وجب أن يكون ما زاد على ذلك القدر عنده استحاضة، ولكن محصل مذهب مالك في ذلك أن النساء على ضربين‏:‏ مبتدأة ومعتادة؛ فالمبتدأة تترك الصلاة برؤية أول دم تراه إلى تمام خمسة عشر يوما، فإن لم ينقطع صلت وكانت مستحاضة، وبه قال الشافعي، إلا أن مالكا قال تصلي من حين تتيقن الاستحاضة، وعند الشافعي أنها تعيد صلاة ما سلف لها من الأيام، إلا أقل الحيض عنده وهو يوم وليلة‏.‏ وقيل عن مالك بل تعتد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة ايام، فإن لم ينقطع الدم فهي مستحاضة‏.‏ وأما المعتادة ففيها روايتان عن مالك‏:‏ إحداهما بناؤها على عادتها وزيادة ثلاثة أيام ما لم تتجاوز أكثر مدة الحيض‏.‏ والثانية جلوسها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، أو تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تعمل على أيام عادتها وهذه الأقاويل لها المختلف فيها عند الفقهاء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر لا مستند لها إلا التجربة والعادة، وكل إنما قال من ذلك ما ظن أن التجربة أوقفته على ذلك ولاختلاف ذلك في النساء عسر أن يعرف بالتجربة حدود هذه الأشياء في أكثر النساء، ووقع في ذلك هذا الخلاف الذي ذكرنا وأجمعوا بالجملة على أن الدم إذا تمادى أكثر من مدة أكثر الحيض أنه استحاضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت لفاطمة بنت حبيش ‏"‏فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهبت قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي‏"‏ والمتجاوزة لأمد أكثر أيام الحيض قد ذهب عنها قدرها ضرورة وإنما صار الشافعي ومالك رحمه الله في المعتادة في إحدى الروايتين عنه إلى أنها تبني على عادتها لحديث أم سلمة الذي رواه في الموطأ ‏"‏أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي‏"‏ فألحقوا حكم الحائض التي تشك في الاستحاضة بحكم المستحاضة التي تشك في الحيض‏.‏ وإنما رأى أيضا في المبتدأة أن يعتبر أيام لداتها، لأن أيام لداتها شبيهة بأيامها فجعل حكمهما واحدا‏.‏ وأما الاستظهار الذي قال به مالك بثلاثة أيام، فهو شيء انفرد به مالك وأصحابه رحمهم الله وخالفهم في ذلك جميع فقهاء الأمصار ما عدا الأوزاعي، إذ لم يكن لذلك ذكر في الأحاديث الثابتة، وقد روي في ذلك أثر ضعيف‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ ذهب مالك وأصحابه في الحائض التي تنقطع حيضتها، وذلك بأن تحيض يوما أو يومين، وتطهر يوما أو يومين إلى أنها تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل في كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي، فإنها لا تدري لعل ذلك طهر فإذا اجتمع لها من أيام الدم خمسة عشر يوما فهي مستحاضة، وبهذا القول قال الشافعي‏.‏ وروي عن مالك أيضا أنها تلفق أيام الدم وتعتبر ذلك أيام عادتها فإن ساوتها استظهرت بثلاثة أيام، فإن انقطع الدم وإلا فهي مستحاضة، وجعل الأيام التي لا تر فيها الدم غير معتبرة في العدد لا معنى له، فإنه لا تخلو تلك الأيام أن تكون أيام حيض أو أيام طهر، فإن كانت أيام حيض فيجب أن تلفقها إلى أيام الدم، وإن كانت أيام طهر فليس يجب أن تلفق أيام الدم، إذ كان قد تخللها طهر، والذي يجيء على أصوله أنها أيام حيض لا أيام طهر إذ أقل الطهر عنده محدود وهو أكثر من اليوم واليومين فتدبر هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى‏.‏ والحق أن دم الحيض ودم النفاس يجري ثم ينقطع يوما أو يومين ثم يعود حتى تنقضي أيام الحيض أو أيام النفاس كما تجري ساعة أو ساعتين من النهار ثم تنقطع‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ اختلفوا في أقل النفاس وأكثره؛ فذهب مالك إلى أنه لا حد لأقله، وبه قال الشافعي؛ وذهب أبو حنيفة وقوم إلى أنه محدود، فقال أبو حنيفة‏:‏ هو خمسة وعشرون يوما، وقال أبو يوسف صاحبه‏:‏ أحد عشر يوما، وقال الحسن البصري‏:‏ عشرون يوما‏.‏ وأما أكثره فقال مالك مرة‏:‏ هو ستون يوما، ثم رجع عن ذلك فقال‏:‏ يسأل عن ذلك النساء، وأصحابه ثابتون على القول الأول وبه قال الشافعي‏.‏ وأكثر أهل العلم من الصحابة على أن أكثره أربعون يوما، وبه قال أبو حنيفة وقد قيل تعتبر المرأة في ذلك أيام أشباهها من النساء، فإذا جاوزتها فهي مستحاضة‏.‏ وفرق قوم بين ولادة الذكر وولادة الأنثى، فقالوا‏:‏ للذكر ثلاثون يوما وللأنثى أبعون يوما وسبب الخلاف عسر الوقوف على ذلك بالتجربة لاختلاف أحوال النساء في ذلك، ولأنه ليس هناك سنة يعمل عليها كالحال في اختلافهم في أيام الحيض والطهر‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ اختلف الفقهاء قديما وحديثا هل الدم الذي ترى الحامل هو حيض أم استحاضة‏؟‏ فذهب مالك والشافعي في أصح قوليه وغيرهما إلى أن الحامل تحيض؛ وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن الحامل لا تحيض، وأن الدم الظاهر لها دم فساد وعلة، إلا أن يصيبها الطلق، فأجمعوا على أنه دم نفاس، وأن حكمه حكم الحيض في منعه الصلاة وغير ذلك من أحكامه، ولمالك وأصحابه في معرفة انتقال الحائض الحامل إذا تمادى بها الدم من حكم الحيض إلى حكم الاستحاضة أقوال مضطربة‏:‏ أحدها أن حكمها حكم الحائض نفسها؛ أعني إما أن تقعد أكثر أيام الحيض ثم هي مستحاضة، وإما أن تستظهر على أيامها المعتادة بثلاثة أيام ما لم يكن مجموع ذلك أكثر من خمسة عشر يوما، وقيل إنها تقعد حائضا ضعف أكثر أيام الحيض، وقيل إنها تضعف أكثر أيام الحيض بعدد الشهور التي مرت لها ففي الشهر الثاني من حملها تضعف أيام أكثر الحيض مرتين، وفي الثالث ثلاث مرات وفي الرابع أربع مرات وكذلك ما زادت الأشهر‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك عسر الوقوف على ذلك بالتجربة واختلاط الأمرين، فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض، وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة والجنين صغيرا، وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء، ومرة يكون الدم الذي تراه الحامل لضعف الجنين ومرضه التابع لضعفها ومرضها في الأكثر، فيكون دم علة ومرض، وهو في الأكثر دم علة‏.‏
-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏ اختلف الفقهاء في الصفرة والكدرة هل هي حيض أم لا‏؟‏ فرأت جماعة أنها حيض في أيام الحيض، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وروي مثل ذلك عن مالك‏.‏ وفي المدونة عنه‏:‏ أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وفي غير أيام الحيض رأت ذلك مع الدم أم لم تره‏.‏ وقال داود وأبو يوسف‏:‏ إن الصفرة والكدرة لا تكون حيضة إلا بأثر الدم‏.‏ والسبب في اختلافهم مخالفة ظاهر حديث أم عطية لحديث عائشة، وذلك أنه روي عن أم عطية أنها قالت‏:‏ كنا لا نعد الصفرة ولا الكدرة بعد الغسل شيئا، وروي عن عائشة‏:‏ أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة؛ فتقول‏:‏ لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، فمن رجح حديث عائشة جعل الصفرة والكدرة حيضا، سواء ظهرت في أيام الحيض أو في غير أيامه مع الدم أو بلا دم، فإن حكم الشيء الواحد في نفسه ليس يختلف، ومن رام الجمع بين الحديثين قال‏:‏ إن حديث أم عطية هو بعد انقطاع الدم، وحديث عائشة في أثر انقطاعه، أو إن حديث عائشة هو في أيام الحيض، وحديث أم عطية في غير أيام الحيض‏.‏ وقد ذهب قوم إلى ظاهر حديث أم عطية ولم يروا الصفرة ولا الكدرة شيئا لا في أيام حيض ولا في غيرها، ولا بأثر الدم ولا بعد انقطاعه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏دم الحيض دم أسود يعرف‏"‏ ولأن الصفرة والكدرة ليست بدم، وإنما هي من سائر الرطوبات التي ترخيها الرحم، وهو مذهب أبي محمد بن حزم‏.‏
-‏(‏المسألة السادسة‏)‏ اختلف الفقهاء في علامة الطهر، فرأى قوم أن علامة الطهر رؤية القصة البيضاء أو الجفوف، وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء أو بالجفوف أي ذلك رأت طهرت به‏.‏ وفرق قوم فقالوا‏:‏ إن كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف، وذلك في المدونة عن مالك‏.‏ وسبب اختلافهم أن منهم من راعى العادة ومنهم من راعى انقطاع الدم فقط، وقد قيل إن التي عادتها الجفوف تطهر بالقصة البيضاء ولا تطهر التي عادتها القصة البيضاء بالجفوف وقد قيل بعكس هذا وكله لأصحاب مالك‏.‏
-‏(‏المسألة السابعة‏)‏ اختلف الفقهاء في المستحاضة إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم الحائض، كما اختلفوا في الحائض إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم المستحاضة، وقد تقدم ذلك، فقال مالك في المستحاضة أبدأ‏:‏ حكمها حكم الطاهرة إلى أن يتغير الدم إلى صفة الحيض، وذلك إذا مضى لاستحاضتها من الأيام ما هو أكثر من أقل أيام الطهر، فحينئذ تكون حائضا‏:‏ أعني إذا اجتمع لها هذان الشيئان تغير الدم وأن يمر لها في الاستحاضة من الأيام ما يمكن أن يكون طهرا، وإلا فهي مستحاضة أبدا‏.‏ وقال أبو حنيفة تقعد أيام عادتها إن كانت لها عادة، وإن كانت مبتدأة قعدت أكثر الحيض وذلك عنده عشرة أيام‏.‏ وقال الشافعي تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز، وإن كانت من أهل العادة عملت على العادة، وإن كانت من أهلهما معا فله في ذلك قولان‏:‏ أحدهما تعمل على التمييز، والثاني على العادة‏.‏ والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين مختلفين أحدهما حديث عائشة عن فاطمة بنت أبي حبيش ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها وكانت مستحاضة أن تدع الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيض فيها قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم تغتسل وتصلي‏"‏ وفي معناه أيضا حديث أم سلمة المتقدم الذي خرجه مالك، والحديث الثاني ما خرجه أبو داود من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت استحيضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن دم الحيضة أسود يعرف، فإذا كان ذلك فامكثي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضيء وصلي فإنما هو عرق‏"‏ وهذا الحديث صححه أبو محمد بن حزم، فمن هؤلاء من ذهب مذهب الترجيح، ومنهم من ذهب مذهب الجمع، فمن ذهب مذهب ترجيح حديث أم سلمة وما ورد في معناه قال باعتبار الأيام، ومالك رضي الله عنه اعتبر عدد الأيام فقط في الحائض التي تشك في الاستحاضة، ولم يعتبرها في المستحاضة التي تشك في الحيض، أعني لا عددها ولا موضعها من الشهر إذا كان عندها ذلك معلوما، والنص إنما جاء في المستحاضة التي تشك في الحيض، فاعتبر الحكم في الفرع، ولم يعتبره في الأصل وهذا غريب فتأمله‏.‏ ومن رجح حديث فاطمة بنت أبي حبيش قال باعتبار اللون، ومن هؤلاء من راعى مع اعتبار لون الدم مضي ما يمكن أن يكون طهرا من أيام الاستحاضة، وهو قول مالك فيما حكاه عبد الوهاب‏.‏ ومنهم من لم يراع ذلك‏.‏ ومن جمع بين الحديثين قال‏:‏ الحديث الأول هو في التي تعرف عدد أيامها من الشهر وموضعها‏.‏ والثاني في التي لا تعرف عددها ولا موضعها وتعرف لون الدم، ومنهم من رأى أنها إن لم تكن من أهل التمييز ولا تعرف موضع أيامها من الشهر وتعرف عددها أو لا تعرف عددها إنها تتحرى على حديث حمنة بنت جحش، صححه الترمذي، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ‏"‏إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي‏"‏ وسيأتي الحديث بكماله عند حكم المستحاضة في الطهر، فهذه هي مشهورات المسائل التي في هذا الباب، وهي بالجملة واقعة في أربعة مواضع‏:‏ أحدها معرفة انتقال الطهر إلى الحيض‏.‏ والثاني معرفة انتقال الحيض إلى الطهر‏.‏ والثالث معرفة انتقال الحيض إلى الاستحاضة‏.‏ والرابع معرفة انتقال الاستحاضة إلى الحيض، وهو الذي وردت فيه الأحاديث‏.‏ وأما الثلاثة فمسكوت عنها‏:‏ أعني عن تحديدها، وكذلك الأمر في انتقال النفاس إلى الاستحاضة‏.‏
الباب الثالث‏.‏ وهو معرفة أحكام الحيض والاستحاضة‏.‏
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى
‏{‏ويسئلونك عن المحيض‏}‏ الآية، والأحاديث الواردة في ذلك التي سنذكرها‏.‏ واتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء‏:‏ أحدها فعل الصلاة ووجوبها، أعني أنه ليس يجب على الحائض قضاؤها بخلاف الصوم‏.‏ والثاني أنه يمنع فعل الصوم لا قضاءه، وذلك لحديث عائشة الثابت أنها قالت‏:‏ ‏"‏كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة‏"‏ وإنما قال بوجوب القضاء عليها طائفة من الخوارج‏.‏ والثالث فيما أحسب الطواف لحديث عائشة الثابت حين أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفعل كل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت‏.‏ والرابع الجماع في الفرج لقوله تعالى ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ الآية‏.‏
-‏(‏واختلفوا من أحكامها في مسائل‏)‏ نذكر منها مشهوراتها، وهي خمس‏:‏
-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ اختلف الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة‏:‏ له منها ما فوق الإزار فقط‏.‏ وقال سفيان الثوري وداود الظاهري‏:‏ إنما يجب عليه أن يجتنب موضع الدم فقط‏.‏ وسبب اختلافهم ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، والاحتمال الذي في مفهوم آية الحيض، وذلك أنه ورد في الأحاديث الصحاح عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر إذا كانت إحداهن حائضا أن تشد عليها إزارها ثم يباشرها، وورد أيضا من حديث ثابت بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏اصنعوا كل شيء بالحائض إلا النكاح‏"‏ وذكر أبو داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض ‏"‏اكشفي عن فخذك، قالت‏:‏ فكشفت، فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليه حتى دفئ، وكان قد أوجعه البرد‏.‏ وأما الاحتمال الذي في آية الحيض، فهو تردد قوله تعالى ‏{‏قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ بين أن يحمل على عمومه إلا ما خصصه الدليل، أو أن يكون من باب العام أريد به الخاص، بدليل قوله تعالى فيه ‏{‏قل هو أذى‏}‏ والأذى إنما يكون في موضع الدم، فمن كان المفهوم منه عنده العموم، أعني أنه إذا كان الواجب عنده أن يحمل هذا القول على عمومه حتى يخصصه الدليل، استثنى من ذلك ما فوق الإزار بالسنة، إذ المشهور جواز تخصيص الكتاب بالسنة عند الأصوليين، ومن كان عنده من باب العام أريد به الخاص رجح هذه الآية على الآثار المانعة مما تحت الإزار، وقوي ذلك عنده بالآثار المعارضة للآثار المانعة مما تحت الإزار، ومن الناس من رام الجمع بين هذه الآثار، وبين مفهوم الآية على هذا المعنى الذي نبه عليه الخطاب الوارد فيها وهو كونه أذى، فحمل أحاديث المنع لما تحت الإزار على الكراهية وأحاديث الإباحة، ومفهوم الآية على الجواز، ورجحوا تأويلهم هذا بأنه قد دلت السنة أنه ليس من جسم الحائض شيء نجس إلا موضع الدم وذلك ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عائشة أن تناوله الخمرة وهي حائض، فقالت‏:‏ إني حائض، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن حيضتك ليست في يدك‏"‏ وما ثبت أيضا من ترجيلها رأسه عليه الصلاة والسلام وهي حائض، وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إن المؤمن لا ينجس‏"‏‏.‏
-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ اختلفوا في وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال، فذهب مالك والشافعي والجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر مدة الحيض وهو عنده عشرة أيام، وذهب الأوزاعي إلى أنها إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها، أعني كل حائض طهرت متى طهرت، وبه قال أبو محمد بن حزم‏.‏ وسبب اختلافهم الاحتمال الذي في قوله تعالى ‏{‏فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله‏}‏ هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء‏؟‏ ثم إن كان الطهر بالماء، فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج‏؟‏ فإن الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني، وقد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين، لا على ما يكون من فعل غيرهم، فيكون قوله تعالى ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم، والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه، ورجح أو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء‏.‏ والمسألة كما ترى محتملة، ويجب على من فهم من لفظ الطهر في قوله تعالى ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ معنى واحدا من هذه المعاني الثلاثة أن يفهم ذلك المعنى بعينه من قوله تعالى ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ لأنه مما ليس يمكن أو مما يعسر أن يجمع في الآية بين معنيين من هذه المعاني مختلفين حتى يفهم من لفظه يطهرن النقاء، ويفهم من لفظ تطهرن الغسل بالماء على ما جرت به عادة المالكيين في الاحتجاج لمالك، فإنه ليس من عادة العرب أن يقولوا لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، بل إنما يقولون وإذا دخل الدار فأعطه درهما، لأن الجملة الثانية هي مؤكدة لمفهوم الجملة الأولى‏.‏ ومن تأول قوله تعالى ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ على أنه النقاء، وقوله ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ على أنه الغسل بالماء فهو بمنزلة من قال لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، وذلك غير مفهوم في كلام العرب، إلا أن يكون هنالك محذوف ويكون تقدير الكلام‏:‏ ولا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، وفي تقدير هذا الحذف بعد أما ولا دليل عليه إلا أن يقول قائل‏:‏ ظهور لفظ التطهر في معنى الاغتسال هو الدليل عليه، لكن هذا يعارضه ظهور عدم الحذف في الآية، فإن الحذف مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أظهر من حمله على المجاز، وكذلك فرض المجتهد هنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين، فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه، وأعني بالظاهرين أن يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال بالماء وظهور عدم الحذف في الآية إن أحب أن يحمل لفظ تطهرن على ظاهره من النقاء، فأي الظاهرين كان عنده أرجح عمل عليه، أعني إما أن لا يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على النقاء أو يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على الغسل بالماء، أو يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال وظهور يطهرن في النقاء، فأي كان عنده أظهر أيضا صرف تأويل اللفظ الثاني له وعمل على أنهما يدلان في الآية على معنى واحد، أعني إما على معنى النقاء وإما على معنى الاغتسال بالماء، وليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا فتأمله، وفي مثل هذه الحال يسوغ أن يقال‏:‏ كل مجتهد مصيب‏.‏ وأما اعتبار أبي حنيفة أكثر الحيض في هذه المسألة فضعيف‏.‏
-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ اختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة‏:‏ يستغفر الله ولا شيء عليه‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يتصدق بدينار أو بنصف دينار‏.‏ وقالت فرقة من أهل الحديث‏:‏ إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في ذلك أو وهيها، وذلك أنه روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض أن يتصدق بدينار‏.‏ وروي عنه بنصف دينار‏.‏ وكذلك روي أيضا في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار‏.‏ وروي هذا الحديث يتصدق بخمسي دينار، وبه قال الأوزاعي، فمن صح عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها، ومن لم يصح عنده شيء منها وهم الجمهور عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل‏.‏
-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ اختلف العلماء في المستحاضة، فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط، وذلك عند ما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات، وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين‏:‏ فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها، والذين أوجبوا عليها طهرا واحد فقط هم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأكثر فقهاء الأمصار، وأكثر هؤلاء أوجبوا أن تتوضأ لكل صلاة، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا وهو مذهب مالك، وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة، وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر، ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين، وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وهو أول وقت العشاء، وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح، فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة، وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة، ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا، وهو مروي عن علي‏.‏ ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر، فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال‏:‏ قول إنه ليس عليها إلا طهرا واحد فقط عند انقطاع دم الحيض‏.‏ وقول إن عليها الطهر لكل صلاة‏.‏
وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة‏.‏ وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة‏.‏ والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث‏:‏ واحد منها متفق على صحته، وثلاثة مختلف فيها‏.‏ أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت ‏"‏جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة‏؟‏ فقال لها عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي‏"‏ وفي بعض روايات هذا الحديث ‏"‏وتوضئي لكل صلاة‏"‏ وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم، وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث‏.‏ والحديث الثاني حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف ‏"‏أنها استحاضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة‏"‏ وهذا الحديث هكذا أسنده إسحاق عن الزهري، وأما سائر أصحاب الزهري فإنما رووا عنه‏:‏ أنها استحيضت، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها‏:‏ ‏"‏إنما هو عرق وليست بالحيضة‏"‏ وأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه، لا أن ذلك منقول من لفظه عليه الصلاة والسلام ، ومن هذا الطريق خرجه البخاري، وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس ‏"‏أنها قالت‏:‏ يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتغتسل للفجر وتتوضأ فيما بين ذلك‏"‏ خرجه أبو داود، وصححه أبو محمد بن حزم‏.‏
وأما الرابع فحديث حمنة ابنة جحش، وفيه ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عند ما ترى أنه قد انقطع دم الحيض، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس، إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب وهنا على التخيير، فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب‏:‏ مذهب النسخ، ومذهب الترجيح، ومذهب الجمع، ومذهب البناء، والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين، وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر، فتأمل هذا، فإنه فرق بين‏.‏
أما من ذهب مذهب الترجيح فمن أخذ بحديث فاطمة بنة حبيش لمكان الاتفاق على صحته عمل على ظاهره، أعني من أنه لم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد، ولا بشيء من تلك المذاهب، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء وهم الجمهور، ومن صحت عنده من هؤلاء الزيادة الواردة فيه، وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها، ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها، وأما من ذهب مذهب البناء فقال‏:‏ إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا، وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة، فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال، هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا‏؟‏ فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها فيه بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة ولا عند انقطاع دم الحيض؛ وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة، لكن للجمهور أن يقولوا إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك، ويبعد أن يدعى مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض‏.‏
وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر لواجب عليها عند انقطاع دم الحيض، فمضمن في قوله‏"‏ إنها ليست بالحيضة‏"‏ لأنه كان معلوما من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل، فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به، وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وتثبت بعد، فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة، هي الزيادة نسخ أم لا‏؟‏ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل، فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء، وأما من ذهب مذهب النسخ فقال‏:‏ إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة، واستدل على ذلك بما روي عن عائشة ‏"‏أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح‏"‏ وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا‏:‏ إن حديث فاطمة ابنة حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة‏.‏ وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين‏.‏ وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها‏"‏ وهؤلاء منهم من قال‏:‏ إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة، وهذا هو قول خامس في المسألة، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات‏.‏ وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ولست أعلم في ذلك أثرا‏.‏
-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏ اختلف العلماء في جواز وطء المستحاضة على ثلاثة أقوال‏:‏ فقال قوم‏:‏ يجوز وطؤها، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين‏.‏ وقال قوم ليس يجوز وطؤها، وهو مروي عن عائشة، وبه قال النخعي والحكم‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ذلك بها، وبهذا القول قال أحمد بن حنبل‏.‏ وسبب اختلافهم هل إباحة الصلاة لها هي رخصة لمكان تأكيد وجوب الصلاة، أم إنما أبيحت لها الصلاة لأن حكمها حكم الطاهر‏؟‏ فمن رأى أن ذلك رخصة لم يجز لزوجها أن يطأها، ومن رأى ذلك لأن حكمها حكم الطاهر أباح لها ذلك، وهي بالجملة مسألة مسكوت عنها‏.‏ وأما التفريق بين الطول ولا طول فاستحسان‏.‏